من العبارات الغبية التي لا أدري من أول من قالها عبارة أو هي تهمة (أنت منبهر بالغرب). هذه العبارة يرُددها كثير من الصحويين، وكذلك (تُباعهم) البسطاء، ويُلقونها كتهمة، دون أن يُعمِلوا أذهانهم فيها، وفي مدى منطقيتها؛ فهؤلاء القوم ليس لديهم قدرة على تمحيص ونقد ما يُطرح أمامهم من مقولات وآراء وأفكار، فيتلقون باستسلام غريب ما يُحشى في أذهانهم من أفكار، كما تتلقى ظهور الدواب ما يُنقل عليها فتحملها لا تدري هل ما تحمله صالح أم طالح؛ وإلا فهل هناك عاقل وعادل في أحكامه، يرى هذه المنجزات فائقة التطور في كل المجالات ولا (ينبهر) بهذه الحضارة العظيمة؟.. حضارة مركباتها تشقُ عباب الفضاء، وتحط على سطح القمر، ثم المريخ، ويطمح علماؤها إلى أن (يُحيوا) هذا الكوكب، ويُعمروه، لتمتد إليه الإنسانية؛ أليس من الطبيعي، والطبيعي جداً، أن يقف الإنسان (السوي) مُنبهراً بهذه العقول الجبارة، وهذه الحضارة التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا؟
تاريخياً أول من كرس العداء بيننا وبين الغرب، ورسخ الخوف من الغرب، وعدم (الانبهار به)، ومن ثم الاقتداء به تنموياً، هم (القومجية) ثم جماعة الأخوان وما تفرع عنهم من حركات سياسية متأسلمة، وعلى رأس هؤلاء منظرهم الأهم «سيد قطب» تحديداً. هذا الرجل لم أقرأ لأحد مغالطات، ونسفاً للمنطق، بل و(خُزعبلات) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات، مثل ما قرأت له.
يقول - مثلاً - في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) واصفاً المجتمع الأمريكي: (إن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائرا أمام ظاهرة عجيبة وهي شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء بينما هو في عالم الشعور والسلوك البدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى).
والسؤال: هل هذه العبارة إذا تأملتها باستقلال وأمانة.. هل هي دقيقة علمياً؟
الجواب بكل بساطة لا. فليس من العلمية، ناهيك عن العدالة نفسها، أن تحكم على مفاهيم كالشعور والسلوك والأخلاق بمعايير ثقافة أخرى كما فعل قطب؛ وإلا فكيف يمكن منطقياً أن إنسانا بدائياً (لم يُفارق مدارج البشرية الأولى) كما يقول، ويبني هذه الحضارة العملاقة التي جابت الآفاق؟.. ثم لو افترضنا - جدلاً - أن هذا صحيح، معنى ذلك منطقيا مرة أخرى أن السلوكيات الأخلاقية لا قيمة لها في بناء منظومات الحضارات؛ وهذه نقطة غاية في الخطورة ومضللة؛ رغم أنها غير صحيحة إطلاقاً.
فالإنسان الذي بنى هذه الحضارة الأمريكية المتفوقة هو في مجال العمل الخيري والإنساني والأخلاقي (الأول) بلا منازع؛ هذا ما تقوله الشواهد والأرقام؛ وأدل دليل على ما أقول إن الأغلبية الكاسحة للجامعات الأمريكية ودور العلم التي صنعت بحوث وعلماء هذه الحضارة العملاقة هي في البدء مشاريع غير ربحية وما تزال؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمستشفيات ومراكز الأبحاث التابعة لها هي الأخرى مؤسسات غير ربحية؛ ليس ذلك فحسب وإنما قبل فترة تبرع أكثر من 30 مليارديراً أمريكياً بما يوازي نصف ثرواتهم في بادرة إنسانية دشنها المليادير مؤسس شركة ميكروسوفت «بل قيتس» ومعه الثري الآخر «وارين بافيت» ثم لحق بهم «بون بيكنز» المستثمر النفطي الشهير، وكذلك مؤسس قناة سي إن إن «تيد تيرنر»، و»ديفيد روكفلر» ، وآخرون، جميعهم أمريكيون أقحاح، فهل ثمة عرب أو مسلمين، لم يأتوا من حضارة الغرب، أو كما سماها قطب (مدارج البشرية الأولى)، قدّموا للبشرية والأخلاق مثل ما قدم هؤلاء النبلاء؟.. أريدكم فقط أن تُقارنوا أولئك الأفذاذ بأثريائنا الملياديرات (المسلمين) لتعرفوا الحقيقة (المحزنة) مجردة، ومن هُم الأقرب للشعور بالإنسان والأخلاق.
كما أن هناك فكرة مغلوطة مُتجذرة غرسها المتأسلمون في ثقافتنا مفادها أن هذا الغرب (الكافر) لم يقم له قائمة إلا بعد أن سقط المسلمون حضاريا، وفي المقابل فلن يقوم لنا قائمة إلا إذا سقط الغرب حضاريا؛ فالطريق لا يحتمل عربتين إما عربتنا أو عربتهم؛ ولتكريس هذه الفكرة وتجذيرها خرجت علينا كثيرٌ من هذه المقولات العدائية للغرب وللحضارة الغربية، مثل (أنت مُنبهر بالغرب) كتهمة، وكذلك (التغريب) كفعل مشين، و(الغرب الصليبي) كعدو مبين، وغيرها من هذه العبارات (المفبركة) التي كرستها الحركات المتأسلمة.. وأدق عبارة قيلت وأنصفت الغرب (أخلاقياً)، جاءت على لسان الشيخ المصري «محمد عبده» عندما زار الغرب وقال مقولته الشهيرة: (في الغرب وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، وفي الشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً)؛ هذا قبل أن تأتِ ثقافة المتأسلمين الموبوءة لتُفسد الأذهان والبلدان، وتُجذر العداء والكراهية؛ فقط قارنها بمقولة «سيد قطب» آنفة الذكر، لتعرف الفرق.
إلى اللقاء