من باب التندر على ما يفرزه الواقع في حياة الأفراد, وتلك المفارقات العجيبة, والمعطيات المدهشة في السلوك العام, جاءت دعوة الكاتب الجميل «صالح الشيحي» لصرف «بدل مشاعر» لموظفي البنوك, الذين يتعاملون مع المنفرط من أعداد الأوراق النقدية بين أيديهم, ملمحاً إلى ما يحتمل من تعرضهم لمغريات بريقها، وذلك بعد أن قرأ عن سرقة موظف في بنك مبلغاً كبيراً من المال.. فذهب يغور وراء العوامل وتداعياتها..
أوقفتني تساؤلاته وتداعياته..
ووجدتني منقادة أفكر بتلقائية نحو القضية السرمدية التي أكتب عنها، ويفعل غيري، وهي «الأخلاق», قوام التربية السليمة القويمة في مجتمعنا، ما قيمها.. وكيف هو حالها؟!..
كيف هي التناقضات في مجتمعنا بين نظرياتها، وتطبيقاتها, بين التنشئة عليها، والإيمان بها.. ومآل الحال التي عليها فيما نرى ونشهد من سلوك يبعد عنها، ويتجرد حتى عن روحها، وما آلت إليه عند الكثير الكثير في التنطق بها كلاماً, والنأي عنها حقيقة وتمثلاً.. وحيث تجد الأدلة والبراهين على أن «الأخلاق» بكل مقوماتها وقيمها قد تصدعت بين العامة من الناس في كل مؤسسة, وفي الشارع، وعلى متن المركبة.. وحيث تترجل الأقدام..
تلاحقت في ناظري كل الحروف عن قضية «الأخلاق» فيما كتبت سنينَ طويلة, أخذت مني شغفاً، وتلهفاً, وأمانيَ..
وكذلك حيزاً في مقدمات محاضرات تدريسي.. وروحاً في مضامينها، وأهدافها..
تصدرت الوقتَ، والحلمَ، والقلقَ، والحسرةَ.. أمس، واليوم، وغداً.. وإلى أن تنطفئ شعلة هذا القلم..
أقلقني الإيحاء الذي ورد إلي مما قال الشيحي، أن يخطر على بال، وإن تخيُّلاً، أن نفوساً ولو قلة، حيث الاحتكاك بالمال، تتعامل مع شهواتها، مع أن البيئة مصدر تنشئتها، وقيم تربيتها, ومدارات سلوكها الفكري والنفسي والعملي منهج الرب سبحانه «الخالق العليم»، الممثل في خلق النبي المرسل «المصلى عليه بأفضل الصلوات, المسلم عليه بأبرك التسليم»..؟! مما ينبغي أن تكون في أفرادها كلهم الضوابط الذاتية دافعة مانعة، سيفاً على الإغراء, سدًّا عن سيل الشهوات, لا تنفرط فيهم مشاعر, ولا تخنع لعبابها منهم إرادات..!
أعادني إلى تلك المفارقات الحادة في هذا المجتمع, وإلى الثغرات المنتشرة في أبنيته الأساس, تتيح بيسر لأن تظهر حقيقة الاحتياج, أو توقع الحاجة الدافعة لضعف النفوس..
إنها تُنهض الحاجة الماسة حقيقة لأن تُسخَّر أكبر نسبة من الدخل الفردي، والعام, لإيجاد وابتكار أنجع الوسائل التي تمكِّن من ترميم الأبنية الأخلاقية, ورتق أنسجة قيمها بشكل عاجل..!!
الأخلاق الأخلاق.. التنشئة على قيمها.. التربية على دعاماتها.. السلوك بمفرداتها..!!
من يقدم لها «عوضاً»، أو «بدلاً»..؟ أو يعيد لها «جادة» قد فُقدت في تناقض المسارات..؟! مع أنها ليست حكراً.. بل حقاً مشاعاً لكل البشر..؟! «إنما الأمم الأخلاق..».
تحيتي لك صالح الشيحي, فكرة إنسانية، راقية.. وبعيدة المغزى..