الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه, وبعد:
فإن الله اصطفى هذه البقاع الطاهرة, والأماكن المقدسة لتكون مواطن شعائره, وشعائر مناسكه, وجعلها أساسًا لقيام الدين وصلاح العمل والحال والمآل, وسببًا لدوام العز والنصر والتأييد, ومقومات للفضائل والكمائل, على حد ما ورد في قول الحق سبحانه: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ...}, يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - على هذه الآية: «يخبر تعالى أنه جعل {الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم، فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم - بقصده - العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم - من أجله - الأهوال, ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية.
ومن أسباب تكميلها توفيق الله - جلَّ وعلا - قادة هذه البلاد وحكامها وولاة أمرها - أيدهم الله - , حيث شرفهم الله بهذه الأعمال الجليلة, وأناط بهم حمايتها ورعايتها وعمارتها, يستجيبون لأمر الله في قوله لخليله إبراهيم عليه السلام: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود}، ويعدون هذه الأعمال شرفاً ومسؤولية كبرى، ويتفانون في بذل الغالي والنفيس لتحقيق هذا المقصد، وهذا من توفيق الله وتسديده لهم ومن أسباب ما وضع الله لهم من القبول وما حباهم به من مكانة.
وقد جرى العرف في كل عام أن تقام مناسبة عظيمة, واحتفال بهيج يحضره كل من تشرف بضيافة الله والوفود إلى بيته, والقيام بحقه, وأداء مناسك الحج, سواء من الرؤساء والقادة والوزراء, ورؤساء البعثات, وتقوم المملكة في كل عام بإقامة هذا الحفل تحقيقًا لمقاصد الحج من الوحدة والاجتماع والألفة, والتشاور والتعاون فيما يخدم المسلمين وقضاياهم في كل مكان, ليكون هذا الاجتماع أداء لبعض حقوق المسلمين وتجسيداً لمعاني الأخوة الإسلامية, وتحصيلاً لبعض منافع الحج التي ذكرها الله في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}, وتجتمع هذه المعاني في خطاب ملكي يتضمن التعبير عن هذه الحقوق والتشرف بها، كما أنه يعد رسالة المملكة ورؤيتها في خضم الواقع والأحداث المتزايدة, ولقد تابع العالم أجمع, ومن خلال وسائل الإعلام ما وفق الله إليه خادم الحرمين الشريفين - أيده الله وسدده - به من خطاب عالمي ألقي نيابة عنه في حفل منى لحج عام 1434هـ ألقاه ولي عهده الأمين وعضده المكين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - , يقرأ المتأمل والراصد والمتابع والمتخصص حرقة حكيم العرب وعراب الحكمة خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - وحرصه وحدبه على واقع أمته, وتحمله للمسؤولية, وأداءه للأمانة, وحكمته المعهودة وشعوره بشعور الجسد الواحد تجاه ما حل ويحل بالمسلمين، وما يعيشونه من واقع مؤلم، وما يستشرفونه من مسقبل، ليأخذ بإخوانه ممن تشرفوا بحضور هذا الجمع المبارك إلى مكامن الداء, ومواطن الخلل ومسببات الواقع المؤلم, ويوقفهم على رؤيته - أيده الله - , وموقف المملكة الذي أثبتت للعالم أنه ينطلق من مقاصد الإسلام والثقل الذي حباه الله لبلد الحرمين الشريفين, ليكون هذا الخطاب خريطة طريق للخروج من الأزمات التي تعاني منها أمة الإسلام في الوقت الحاضر, كما أنه يعد تفعيلاً لمواسم الحج في تحقيق مقاصدها, وتجلية حقائقها, واستثمار منافعها الدينية, التي هي جزء من معنى قوله سبحانه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ .
وقد حوى على وجازته دلالات عظيمة, ومحاور عديدة, تعد مرتكزات أساسية لفهم الواقع الذي نعيشه, والتعقيدات التي تكتنفه, والمخرج منها, ولذا فإن هذا الخطاب يستحق التأمل والوقوف عند مضامينه, فهو خطاب يهم المسلم باعتبار أنه جزء من هذه الأمة التي عصفت بها الفتن, وفرقتها الخلافات والقوميات والحزبيات, وعاشت التحولات والمتغيرات والعواصف التي وصفت بالربيع وهي فتن متلاحقة وشرور متتابعة ليتحمل مسؤوليته تجاه دينه وعقيدته, وتجاه نفسه, وتجاه أمته, باعتبار أنه عضو فاعل في جمع الكلمة ووحدة الصف, وتوحيد الشمل فيعتصم بما أمر به، ويأخذ بما هو عقيدة أهل السنة والجماعة في الحفاظ على الجماعة والالتزام بالإمامة، والتعاون والتناصح ليصلح الحال والمآل, ويهم المواطن باعتباره فردًا من أفراد هذا الوطن الإسلامي الذي منَّ الله عليه بهذه القيادة الحكيمة التي يمتلك قائدها حسًّا إنسانيًا رفيعًا, وروحًا إسلامية عالية, وهمًا تجاه أمة الإسلام فلم ينغلق على شعبه ووطنه فحسب, بل ها هو من خلال كلمات سامية يشير إلى حقيقة أصيلة في سياسته, وهو أنه يشعر بمآسي المسلمين, ويشاطرهم شؤونهم وأحوالهم بشعور القائد الذي يسعى جاهداً أن يقدم ما يرفع عنهم هذه النوازل ويحل المعضلات ويحمد الله - جل وعلا - أن شرفه بمواطنة هذا البلد المعطاء والوطن العزيز الذي يمثل قوة إسلامية كبرى، وعضواً فاعلاً مؤثراً في المنظومة الدولية، ويؤدي حقوق هذه المواطنة حباً وولاءً وحفاظاً على هذه الوحدة وتماسكاً وتكاتفاً, وهذا الخطاب يهم أيضاً علماء الإسلام وطلاب العلم, وكل من يعمل في خدمة الإسلام والمسلمين, وذلك للمشاركة الفاعلة المؤثرة في بناء الخطاب الإسلامي على هذه الجوانب الأساسية التي سبب فقدها خللاً في مسار الدعوة وتأثيرها في الأوساط المستهدفة بها وأهم من ذلك التعامل مع الخلاف وتفعيل الحوار المذهبي, ومن هنا أحببت مشاركة في هذا الجانب, وشعورًا بالمسؤولية أن أقف مع هذا الخطاب الملكي الوقفات التالية:
1 - تأكيد المليك المفدى - أيده الله - على الرابطة العظمى التي وحدت القلوب والمشاعر والشعائر, وتجعل هذه الرابطة فوق كل الاعتبارات فيقول - أيده الله - : «إننا أمة - - ولله الحمد والمنة - عزيزة بعقيدتها, ما دمنا على قلب رجل واحد, فهمومنا واحدة, وآمالنا مشتركة, ولا عز ولا تمكين إلا في التمسك بعقيدتنا, واستنهاض كل القيم التي أمر بها رب العزة والجلال», فهذا التوحد على الأساس العظيم, والرابطة العظمى يوحد الآمال والمسؤوليات, ويشكل وحدة تجابه كثيرًا من التحديات, ما دام المرتكز العقيدة, والمنطلق وسطية الإسلام وشموليته, فالتوحد في هذه الصورة الجزئية التي تبهج النفس, وتسر الخاطر, حينما يجتمع على هذا الثرى الطاهر المبارك, والمشاعر المقدسة جمع غفير من شتى أقطار الأرض, على اختلاف مجتمعاتهم وأعراقهم وثقافاتهم وأخلاقهم, وتقاليدهم, وتباين ألوانهم وألسنتهم, لكن يؤلف بين هذه الجموع الحاشدة دين واحد, وتجمعهم عبودية واحدة, وتظهر هذه الوحدة في العبادات والشعائر والمشاعر, والهدف والتوجه والقصد, بل حتى الزي والمظهر, لا فرق بين الغني والفقير, والشريف والوضيع, والصغير والكبير, ولا بين الألوان المتباينة, والألسن المختلفة, الكل قد توحدوا تحت راية هذا الدين, وهذا التوحد رسالة إلى المسلمين جميعًا أن هذا قدرهم, وتلك مسؤوليتهم أن يجتمعوا ويتوحدوا, ومن هنا يأتي هذا التذكير من إمام المسلمين بضرورة هذا الاجتماع, وأنه مقصد من مقاصد الدين عمومًا, ومن مقاصد هذه الشعيرة العظيمة شعيرة الحج على وجه الخصوص، وأن الذي يعيد هذه الوحدة إلى قوتها وعظمتها هو التمسك بهذا الدين والاعتزاز به بوسطية بعيداً عن الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، وما من شك أن هذا هو المحك الذي يقاس به قوة الاستقامة وحقيقة التدين وما أتي المسلمون إلا حينما جنحوا إلى طرفي النقيض، وأفسدت عليهم البدع والمحدثات صفاء هذا الدين ونقاءه.
ولو عدنا إلى حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان منه من إعلان كثير من مبادئ الدين في خطبته في حجة الوداع, ومنها خطبته يوم عرفة, ويوم النحر وأيام التشريق, وقد تضمنت تلك الخطبة ما ذكر به خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - أخرج الإمام أحمد في مسنده عن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق, فقال: «يا أيها الناس: إلا أن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى, أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام, ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام, قال ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام, قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: ليبلغ الشاهد الغائب».
ولذا فإن المسؤولية عظيمة في تحقيق هذا المقصد العظيم من المناسك وتفعيلها في لمِّ الشمل, ووحدة الكلمة, وإحياء معاني الأخوة الإسلامية التي تقوم على أصل عظيم, ورابطة مقدسة هي رابطة الدين التي هي الأصل في الروابط, بل لو تعارضت الروابط الأخرى من رابطة النسب والقرابة والقومية وغيرها مع هذه الرابطة قدمت عليها, كما دل على ذلك قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أو أبناءهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ إلا أن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
إن هذه اللفتة الإسلامية من إمام المسلمين في الاعتزاز بالدين، وإحياء معاني الأخوة يجب أن تكون مثار تقدير واحترام لهذا القائد الفذ, والملك المسلم الذي حباه الله من الصفات, والأخلاق, ووفقه لهذه المواقف التي لا يقوم بها إلا أفذاذ الرجال , وهي تحَمِّل من حضر من الشخصيات الإسلامية مسؤولية المشاركة الفاعلة المؤثرة في معالجة الأوضاع الداخلية للأمة الإسلامية على أسس ذكرها خادم الحرمين - حفظه الله - أبرزها: ما يربط بين هذه الشعوب من الإيمان بالله الذي هو أساس الأخوة في الدين, وعليه تبنى مقتضيات الأخوة ومعانيها، وتحقيق وسطية الدين وتنقيته مما حمل من أفكار وتنظيمات وتحزبات لا تمت إليه بصلة.
وثانيها: القيم المشتركة التي تجمع الشعوب الإسلامية, وهي قيم عالمية تؤسس لبناء متماسك مترابط, أدق وصف له ما ذكره الرسول المجتبى والنبي المصطفى في مثلين ذكرهما للمؤمنين, فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى», وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
هذه القيم بجمعها قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}, إنها قيم العدل, والإحسان, والصلة, والفضيلة, والبعد عن الرذائل والعدوان والبغي, وبذلك تقوم مجتمعات المسلمين على أسس متينة قوية, وينتفي عنها بذلك كل الصفات المرذولة، كما أن من أبرز القيم التسامح دون غلو ولا تجبر ولا رفض للآخر لمجرد اختلاف الدين، فالتعامل ينطلق من المشترك وفهم لمدرك الحوار الإنساني، والمختلف عليه يتم التعامل معه على ما ورد في النصوص.
وثالثها: اعتماد الحوار طريقًا لفهم الآخر, والتعايش معه على أساس الحرية والقناعات, وعدم الإكراه عليها, على حد قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}, وهي طريق لنبذ الخلاف والتناحر بين المسلمين أنفسهم فإذا كنا نتعامل مع الآخر وفق هذه القواعد، فالتعامل مع الخلاف بين المسلمين وتقريب الفجوة وتحديد الأطر لمعالجة الخلافات أهم وآكد, وهذه مسؤولية تتحملها المملكة العربية السعودية على اعتبار أنها جزء من رسالة المملكة تجاه المسلمين في العالم أجمع, وهي أصل من الأصول التي قامت عليها هذه الدولة المباركة, ولذلك فإمامنا خادم الحرمين الشريفين يقتفي إثر آبائه وأجداده الذين عاهدوا الله على جمع كلمة المسلمين, وبذلوا التضحيات في سبيل ذلك, يقول الملك المؤسس الباني الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن - طيب الله ثراه - : «أنا مسلم, وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين, وليس عندي أحب من أن تجتمع كلمة المسلمين, وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي في سبيل ذلك», ويقول رحمه الله: «إن المسلمين بخير إذا اتفقوا وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليتقدم المسلمون للعمل بذلك, فيتفقون فيما بينهم على العمل بكتاب الله وسنة نبيه وبما جاء فيهما, والدعوة إلى التوحيد الخالص, فإنني حينذاك أتقدم إليهم وأسير وإياهم جنبًا إلى جنب, في كل عمل يعملونه, وفي كل حركة يقومون بها».
وتتحمل المملكة العربية السعودية هذا الموقف الإسلامي الذي يهدف إلى التضامن وجمع الكلمة ووحدة الصف بما بوأها الله من مكانة دينية شرعية في العالم الإسلامي, فهي بمثابة القلب من الجسد, تحوي المقدسات, وتضم المشاعر, ومنها انطلق الإسلام إلى بقاع المعمورة, وقبل ذلك هي مهد الرسالة, ومهبط الوحي, ومأرز الإيمان, فلا غرو أن يكون هذا الهم العظيم من جعل الله قدرهم وهيأهم لولاية هذا البلد الإسلامي إدراكا منهم لأثر هذه البلاد على غيرها, ولذلك فهي القدوة والأسوة لبقية بلاد المسلمين, وقد ركز أيده على هذه الجزئية وهي الحوار المذهبي، لأن من يرصد الواقع ويتأمل ما يقاسيه المسلمون يجد أن للطائفية والحزبية أثرها الشنيع في التفريق والخلاف، وأبلغ من ذلك القتل والدمار، والمسلمون بحاجة إلى أن ينصفوا من أنفسهم، وينتهجوا منهج الحوار وصولاً إلى حقن الدماء، وتحقيق وحدة المسلمين، ونسأل الله أن يتحقق هذا الاجتماع والوحدة على يد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله - حفظه الله - والحوار سبيل لتجاوز الخلافات, فهو يقرب المسافات, ويختصر الطرق, ويفعل في النفوس ما لا تفعله الأسلحة العسكرية, لأنه يعتمد أسلوب الإقناع العقلي, وإثارة الدافع للقبول, والحاجة في ظل الظروف الآنفة ماسة لمثل هذا الأسلوب الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين في العلاقة مع الآخر, بل وحتى في تصحيح المفاهيم, وتنقية الإسلام مما علق به من شبه وبدع وخرافات.
أما القوة في أبهى معانيها، والعزة في أجمل صورها فقد أطلقها خادم الحرمين الشريفين مخاطباً العالم بهيئاته ومنظماته ودوله «من أرض الرسالة ومهبط الوحي نقول للعالم أجمع، إننا أمة لا تقبل المساومة على دينها أو أخلاقها أو قيمها، ولا تسمح لكائن من كان أن يمس سيادة أوطانها أو التدخل في شؤونها الداخلية».. الله أكبر إنها كلمات تسطر بأحرف من نور، وتدون بمداد من ذهب يخلدها التاريخ لإمام المسلمين، وعظيم من عظمائهم موقف عزة وكلمة حق تقطع الطريق على كل من يساوم أو يستغل ظرفاً تعيشه بلاد المسلمين ليصل إلى أجندة سياسية، أو فكرية، أو طائفية بأي وسيلة كانت فإن هذا لن يمرر، ولا يمكن أن يقبل، وستعمل المملكة بكل طاقتها لتقطع الطريق على هؤلاء بما يحقق سيادة الوطن، ويحفظ الكرامة، ووالله إنها لمن المواقف التأريخية التي عهدناها من ولاة أمرنا - أيدهم الله - تشعرنا بقوة الإسلام والمسلمين وتعكس واقع هذه الدولة العزيزة والوطن الغالي المملكة العربية السعودية بما حباها الله من مكانة، وما تمثله من ثقل عالمي، وما تقوم عليه من أسس وثوابت، وهذا الموقف رسالة لكل من يظن انه سينال من سيادة الوطن أو يمس ذرة من ثراه الطاهر بأي وسيلة بأن هذا الشأن لا مساومة عليه، ولا يقبل تبريره مهما كانت المبررات، حقاً إنها مواقف العظماء تبعث فينا معاني القوة والعزة، وتشعرنا بالفخار والاعتزاز والحمد لله الذي وفق إمامنا وسدده بتسديده.
وبعد فهذه مضامين سامية تضمنها الخطاب الملكي أردت الوقوف على بعضها, والتأكيد عليها, وإني أؤكد على أن هذا الخطاب غاية في الأهمية, وجاء في وقت وظرف بالغ الحساسية, وتضمن أسسا تعين على الأمة على مواجهة التحديات وحل المشكلات, وتوحيد الصف, ولذا فهو جدير بأن يعتنى به وتبرز مضامينه ودلالاته.
وفي الختام يشرفني أن أرفع لمقام خادم الحرمين الشريفين خالص الشكر والامتنان, وأصدق التهاني والتبريكات بالنجاح الباهر الذي اتسم به موسم الحج هذا العام, وتوج بإحباط المخططات الإرهابية التي كانت تستهدف ضيوف الرحمن, فلله الحمد أولاً وآخرًا على هذه النعم العظيمة, ونسأل الله تعالى أن يحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها وولاة أمرها, وأن يجعل ما قدموه ويقدمونه من تسهيلات لضيوف الرحمن, وجهود مباركة جبارة للعمل على رضاهم في موازين حسناتهم, إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.