يحمل اعتذار المملكة عن عدم قبول عضوية مجلس الأمن - وهو اعتذار مشرف بالفعل- حمولة ضخمة من الدلالات الشرعية والفكرية، التي تؤكد للعالم كله والعالم الإسلامي على وجه الخصوص أن المملكة العربية السعودية وهي تعيش في القرن الحادي والعشرين: عصر الاستكبار العالمي، والدول الكبرى، والسوق المشتركة، والعولمة الاقتصادية، ما زالت - حتى الساعة - ترفض التماهي مع الاستكبار وتأبى أن تساق مع غيرها إلى حيث التبعية السياسية المطلقة، وأن تعاونها مع العالم وتشابك مصالحها معه لا يلغي هويتها الإسلامية، فلا يمكن أن تتنازل - بحال - عن اعتزازها بقيمها الدينية والإنسانية، - وفي ذات الوقت - تعلن للعالم نبذها وكراهيتها للقيم البراجماتية: من الظلم والازدواجية والنفاق السياسي ولعبة المصالح على حساب الدم والقتل. إن رفض المملكة لهذه العضوية لا يجب أن يمر مرور الكرام أو يكون كحدث سياسي عابر، بل يجب أن نقرأه من عدة جهات:
أولها: أن هذا القرار يقطع الطريق على كل من يطعن في سيادية القرار السياسي في المملكة، وأنها كغيرها من بعض الدول تابعة للقرار السياسي الدولي، بل لها استقلالها التام وقرارها السيادي، وأن تحليها بالحكمة والأناة في كثير من المواقف لا ينافي أن تختار التصعيد والرفض إذا تطلبته سيادة الدولة وقرارها، ففي هذا الموقف لم تكتف بالرفض والصمت فقط - حتى يمكن توظيف هذا الموقف - بل عللت أسباب الرفض بصراحة شديدة وبلغة حاسمة، وخلاصة الاعتذار أنها لا يمكن أن تكون شريكا في الظلم والنفاق السياسي، وأن تمارس ما يمارسه غيرها في لعبة «ازدواجية المعايير» كما عبر عنه البيان، أو أن تكون رقما مهملاً في مجلس غير محايد، وبالتالي لا يمكن الاطمئنان للأدوار التي يقوم بها، وهو في المحصلة النهائية - كما سماه البيان- «عاجز عن أداء واجباته وتحمل مسؤولياته».
الجهة الثانية: وظفت المملكة هذا الرفض لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، فجاء البيان أشبه بعملية جرد حساب دقيق للمجلس وموقفه من كل قضايانا التي فشل في تحقيق أي إنجاز فيها، وأول هذه القضايا: القضية الأم: قضية فلسطين، وهذا يؤكد بقاء هذه القضية حية متألقة في ذاكرة السياسة السعودية، وأنه مهما تقادم الزمن وتوالت الأزمات فقضيتنا المركزية الكبرى التي نناضل من أجلها هي قضية فلسطين، أرض النبوات ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم القضية الأخرى التي تعامل معها المجلس بفلسفة ازدوجية المعايير: الأسلحة الكيميائية والتعاطي المزدوج معها، ثم أخيرا فشله الذريع والمروع في التعامل مع قضية سوريا وتخلي العالم عن الشعب السوري.
الجهة الثالثة: أن هذا الموقف المشرق من المملكة لا يدعو للدهشة والاستغراب لمن يعرف تأريخها في التعامل مع المؤامرات الكبرى التي تستهدف القضايا الإسلامية، ففي القضية الفلسطينية لا أحد يمكن أن ينكر الدور السعودي في الوقوف بصلابة أمام الأطماع الصهيونية في فلسطين منذ بداية الاحتلال النكبة، ففي عام 1945م، وفي حمأة الاحتلال اليهودي لفلسطين، ورغم انشغال الملك المؤسس رحمه الله بتأسيس دولته الفتية فقد وقف بصلابة أمام كل محاولات تسويق الاحتلال وتطبيعه، فكان يسمي اليهود في كل مخاطبته بالصهاينة ويحذر من مكرهم، ففي رسالته إلى روزفلت جاء فيها: «إن مساعدة الصهيونيين في فلسطين لا تعني خطراً يهدد فلسطين وحدها، بل إنه خطر يهدد سائر البلاد العربية»، ويقول أيضا: «إن أعمال الصهيونيين في فلسطين وفي خارجها صادرة عن برنامج متفق عليه من الصهيونية». وقال أيضاً: «إن تكوين دولة يهودية في فلسطين سيكون ضربة قاضية للكيان العربي ومهدداً للسلم باستمرار»، وأضاف قائلاً: «إن مطامع اليهود ليست في فلسطين وحدها، فإن ما أعدوه من العدد يدل على أنهم يبيتون العدوان على ما جاورها من البلدان العربية». وقال أيضاً: «ليس في جسمي ذرة لا تدعوني لقتال اليهود، وإني أفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري ولا يتأسس لليهود ملك في فلسطين». فهذه المواقف الصلبة من المؤسس رحمه الله لم تكن أقوالا فرضها سياق الزمان والمكان، وإنما كانت تؤسس لسياسة صلبة تسير عليها هذه البلاد، ولهذا استلهم هذه السياسة الحكيمة الأبناء والأحفاد، وهنا أتذكر موقف جلالة الملك سعود رحمه الله عام 1935 لما قام بزيارة رسمية لمصر, وشرق الأردن, وفلسطين في مهمة رسمية، تهدف إلى مساعدة عرب فلسطين في محنتهم وتفقد أحوالهم، وكان استقباله في فلسطين حافلاً ومشهودا، حيث صلى في المسجد الأقصى الشريف, والمسجد الإبراهيمي, وكان بهذه الزيارة أول أمير سعودي يزور القدس الشريف، وعندما زار قرية عنبتا فى طولكرم وقف أحدهم، وهو عبد الرحيم حمود رحمه الله - وألقى بين يدي الأمير سعود قصيدة، ولما وصل بها إلى هذا البيت:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت قبل الأوان تودع
وقف الأمير سعود رحمه الله والدموع تتهادى في عينيه وخاطب الحاضرين بصوت جهوري حازم ومؤثر وقال: (لا والله، لن نودع فلسطين ونحن فينا عرق عربي واحد ينبض)، ومثله موقف الفيصل رحمه الله، ففي حرب أكتوبر 1973م، وبعد أن عبرت القوات المصرية خط بارليف وتقدمت القوات السورية نحو الجولان، أعلن الفيصل رحمه الله تعالى حربه الدبلوماسية وهدد الغرب ومعه أمريكا صراحة بأن أي مساعدة لإسرائيل سوف يمنع تدفق النفط للغرب، وعندما أقامت الولايات المتحدة الأمريكية جسرا جويا لإمداد إسرائيل بالسلاح تعويضا لما دمر في الحرب قام الملك فيصل بإيقاف البترول للغرب، وجعل كل الاتفاقيات معهم على المحك، فتحول العالم كله إلى كرة من اللهب، حتى تناقلت الصحف - وقتها- صورة الرئيس البلجيكي وهو يقود دراجته الهوائية متجهاً إلى مقر رئاسة الوزراء، ويطلب من شعبه أن يتحلوا بالصبر، وأن يقتدوا به في الاستغناء عن السيارات لأن النفط يوشك أن يتوقف!، وفي أمريكا خرجت المظاهرات مما حد بالرئيس الأمريكي وقتها ريتشارد نيكسون أن يقوم بزيارة عاجلة إلى المملكة فاستقبله الفيصل في مطار جدة، وفي الاجتماع المغلق كان الملك فيصل قد طلب أن يُوضع فوق طاولة إناء وبه لبن وآخر به تمر، وعندما بدأ الاجتماع؛ قال الفيصل مستفتحاً اللقاء: «لقد عاش آبائي وأجدادي على هذا الذي أمامك، ولا أمانع من العودة إليه»! فانتهى الاجتماع على أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إيقاف تزويد إسرائيل بالسلاح وأن توقف الحرب فورا، وهكذا كان موقف الملك خالد رحمه الله، ومثله الملك فهد رحمه الله، واليوم يأتي هذا الموقف التاريخي للملكة من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ليكمل المسيرة ويؤكد على أن هذه السياسة المليئة بالكرامة والعزة والشموخ ليست حالة استثناء تفرضها تجاذبات السياسية ولعبة المصالح والمناورات السياسية، وإنما هي منهج سياسة ودستور دولة لا يمكن أن تحيد عنها مهما كانت الظروف.
الجهة الرابعة: أن هذا الموقف التاريخي من المملكة جاء استجابة لتطلعات شعبها كما نص على ذلك البيان، وهذا يؤكد -بحمد الله- رسوخ العلاقة بين الشعب والقادة، وأن صدى صوت الشعب سينفذ حتما إلى سمع القادة، فليس الولاة بمعزل عن هموم الشعب وتطلعاتهم، ومن يقرأ حديث المجالس في المجتمع السعودي سيلاحظ أن القضية رقم (1) التي تشغل حديثهم هي القضية السورية، فترى الكثير منهم يتناقلون المقاطع المؤلمة للدماء التي تسيل وصور الأطفال والنساء المشردين، كما يكتنفهم شعور رهيب بالخيبة واليأس والإحباط من هذا التآمر العالمي على هذه القضية العادلة، فجاء هذا الموقف الرسمي لينقل هذا الحديث الخافت من السر إلى العلن، بل ويكون هو الموقف الرسمي الذي تتبناه المملكة، وتعيد تشكيل سياستها الخارجية من خلاله. وهنا أستدعي الموقف المشرف للمملكة في أول أحداث الأزمة السورية يوم كان الجميع يقف موقف المتفرج وكل ينأى بنفسه عن أن يكون في واجهة الأحداث، فجاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين لتقول للنظام بالفم المليان: لا، وتحذره من المصير المشؤوم الذي ينتظر إن هو استمر على منهجه، فاليوم فرصة له لـ:تحكيم العقل قبل فوات الأوان» وتطالبه بـ»طرح وتفعيل إصلاحات لا تغلفها الوعود، بل يحققها الواقع، ليستشعرها إخوتنا المواطنون في سوريا في حياتهم كرامةً وعزةً وكبرياء»، واستشرفت الكلمة وهي في بداية الأحداث مستقبل سوريا: بأنها ستكون «بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تختار بإرادتها الحكمة، أو أن تنجرف إلى أعماق الفوضى والضياع - لا سمح الله «، و- بكل أسف - لم يسمع النظام السوري والعالم هذا النداء الصادق، فكان لسوريا الخيار الثاني: الفوضى والضياع.
وإنني - بهذه المناسبة - أستغل هذا الموقف لأؤكد على كل المعتنين بالشأن العام والعقل الجمعي من المشايخ وطلاب العلم والدعاة والمفكرين والمثقفين على ترسيخ هذه المعاني الوطنية في نفوس الناس، والوقوف أمام ما يثار في وسائل التواصل الاجتماعي من محاولات توظيف كل المواقف التاريخية للمملكة توظيفا سلبيا، عبر أسماء مجهولة ومستعارة، تستخف بعقول الناس عبر ما يسمونه بالمصادر المطلعة والتسريبات الخاصة!، وهم إنما يمارسون الكذب المكشوف والدجل المفضوح، وأقل أحوال هؤلاء أن يستعمل معهم المنهج القرآني في التثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} وكيف لعاقل أن يقبل قول معرف مجهول يتحدث في شأن عام يهم أمر الناس كلهم، فمثل هذا لا يقبل قوله ولو تحدث عن نفسه! ما دام أنه يختفي خلف معرف مجهول يمكن أن يكون خلفه كل أحد!، كما أؤكد على ضرورة مكافحة ما يحاول هؤلاء ترويجه من إذكاء حالة التذمر والتشكي من كل شيء، وتحويل كل الإنجازات إلى إخفاقات، وفي ذات الوقت أؤكد على وجوب الفصل بين حديث الناس عن همومهم الخدمية وتطلعاتهم التنموية فهذا شيء، وبين الانتماء للوطن وقادته فهذا شيء آخر، فالأول تختلف الآراء حوله، وكل إنسان له الحق بأن يتطلع للعيش الرغيد، والخدمات الميسرة، فهذا مقبول من كل شخص حتى ولو علا صوته وارتفع، لكن الانتماء للوطن والبيعة الشرعية لقادته فهذا لا محيد عنه ولا يمكن قبول الاختلاف فيه والحديث حوله؛ وبهذا التوازن يمكن لنا أن نقطع الطريق على كل الذين يمتهنون لعبة التوظيف، فتراهم يوظفون الشأن الأول لينالوا من الشأن الثاني، والخلط بين الاثنين هو ما يريده الشانئون لهذا الوطن. لا بد لنا ونحن اليوم في حمأة الصراع والاصطفاف الفكري أن نعيد إلى النفوس التدين الفطري الصحيح، الذي كان عليه آباؤنا وأجدادنا، بعيدا عن تخوين الناس وتصنيفهم، نريد أن نبعث التدين الذي لا ينازع الحاكم في مسؤولياته ولا يفتئت عليه في علاقاته مع الدول، ولا يتدخل في سياسته الشرعية، التدين الذي يكون الوطن من أغلى مكتسباته فيفرح بإنجازاته، ويتألم لوجعه، وليس التدين العابر للحدود والقارات، الذي يفرح لكل وطن إلا وطنه، ويتألم لكل ألم إلا ألم بلده، ويبارك كل خطوة في التطوير والتقدم إلا أن تكون في وطنه. واليوم ونحن في غمرة الفرح لهذا الموقف التاريخي الكبير لا بأس أنشير إلى ظاهرة سلبية برزت مع ظهور وسائل التواصل الحديثة، وهي تدخل العامة في شؤون السياسة الشرعية، فبدأنا نسمع آحاد الناس يتحدثون في الشأن السياسي، بل وأحياناً يذهبون إلى أبعد من ذلك فيحللون المواقف السياسية المعقدة ويخطئون هذا ويصوبون ذاك، ويبنون على ذلك مواقفهم الشرعية من الحاكم، ومثل ذلك ما ينقل عن بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي من الفتاوى التي تتدخل في تقدير السياسة الشرعية، والتي أجمع الفقهاء على أن مرجع تقديرها إلى ولي الأمر، من ذلك مثلا ما ينقل عن بعضهم في معارضة التنظيم الجديد للحج، والشدة في منع الحج بدون تصريح، فبدأنا نسمع بعض الفتاوى التي تسوغ الاحتيال على هذا التنظيم، عبر تكييفات فقهية غريبة، لا تسير على سنن قواعد الشريعة ولا على أصولها، وهي فتاوى يحضر فيها كل شيء إلا الفقه الصحيح والحكمة الرشيدة. والله أسأل أن يحفظ على هذا البلد أمنه وإيمانه وقادته وشعبه. والله الموفق والمعين.