مع اقتراب موسم الحج وجدتُ نفسي مشدوداً إلى قراءة كتاب عن الحج أو عن المشاعر المقدسة.
وبحكم اهتمامي بالأدب رأيت أن أقرأ كتاباً أدبياً في هذا الموضوع، فكان أن اخترت كتاب «رحلتي إلى مكة» للمستشرق «جيل -جرفيه كورتلمون»، وهو كتاب طبعته مؤسسة التراث الخيرية طباعة فاخرة، بترجمة مميزة.
وهذا الكتاب الذي أُلِّف قبل عام 1350هـ يعطي قارئه تصوُّراً واضحاً عن الحياة في ذلك العصر، وعن مشاهد الحج بتفاصيل دقيقة تجعل القارئ مشدوداً إلى كل سطر فيه.
عاش هذا الرحالة الفرنسي بين عامي 1280- 1350هـ، وقضى معظم حياته في الجزائر، إلا أن من النقاط التي تجعل الكتاب مغرياً بالقراءة أنه - وإن كان داخلاً ضمن أدب الرحلة - جاء في أسلوب روائي جذاب، بل إن كلمة الناشر/ مؤسسة التراث ومقدمة المترجم كانتا وكأنهما جزء من هذه الرحلة الماتعة، فقبل أن يبدأ المؤلف «جيل-جرفيه كورتلمون» سرد رحلته التي بدأها من الجزائر سرد الناشر والمترجم في مقدمته التفاصيل المهمة في حياة المؤلف سرداً جعل المقدمة جزءاً لا يتجزأ من حياة هذا الرحالة؛ إذ ذكر أنه كان ذا ولع بالقراءة والاطلاع، مشغوفاً بالتصوير، وكيف آلت به هذه الموهبة إلى أن يكون رحالة يجوب كثيراً من بلدان العالم.
ثم بدأ المؤلف في سرد رحلته الشائقة لدخول مكة المكرمة، التي اضطر معها إلى أن يطلق لحيته، وينطق أحياناً باللهجة الحجازية قائلاً «يا حاج يا خويا»؛ ليوهم الآخرين بأنه عربي.
ولئن كان تداخل الأجناس الأدبية ظاهرة بارزة على كثير من أجناس الأدب فإن هذه الرحلة التي جاءت في قالب رواية لهي نموذج لهذا التداخل، بل إن هذا التداخل هو ما جعل تسلسلها أكثر جذباً، إضافة إلى ما تزخر به من لغة شعرية، من قبيل قوله عن أحد الفنادق التي سكنها: «يوجد في هذا الفندق ساحة صغيرة، وهو يبدو في هذه الساعة المتأخرة من الليل منـزلاً ذا مظهر فقير، مضاء بفانوس ينبعث منه الدخان.
طرقت الباب، وبعد تردد انفتح على صالة كبيرة ذات سقف منحنٍ مملوء بالدخان والأوساخ، وترتمي فوق أرضه أشكال بشرية ملفوفة بأسمال متسخة رمادية اللون».
بل إننا نجد تصويراً لملامح بعض الشخصيات التي قابلها، على غرار قوله واصفاً أحد الذين التقى بهم بأنه: «نموذج لقرصان من الأزمنة الغابرة؛ فهو ذو قامة هرقلية، عيناه سوداوان تلمعان، وشاربه معقوف، جميل المظهر إلى حد ما، يلبس ثوباً خفيفاً، ويرتدي عمامة من الحرير».
إلا أن ما يهمنا الآن في هذا الكتاب هو قيمته التاريخية أو التراثية، فهو مملوء بالصور التراثية أو الرسوم التي تعطي المطّلع عليها صورة جلية للحياة في ذلك الزمن، فنجد صورة لسور مدينة جدة، وصورة ثانية لحجاج المغرب العربي وهم على متن السفينة، وصورة للزي البدوي وللباس أهل الحجاز، وصورة لبيوت مكة المكرمة.
وفي هذا الكتاب - كما قال الناشر «يُجري الكاتب سباقاً بين القلم والكاميرا لنقل الحركات والسكنات»، فعلى مستوى السرد ينقل لنا المؤلف بتجرد ما يتمتع به أهل هذه البلاد من كرم، وذلك من خلال حوار دار بين بعض الجنود الأتراك وأهل الجزيرة العربية، إذ رأى أحد أهل المدينة المنورة تركياً يشرب الشاي فقال:
- أعتقد أن الأعراب لا يشربون الشاي دون أن يدعوا إليه جيرانهم.
- فأجابه التركي قائلاً: لكنني أعتقد أن الناس في البلاد العربية إذا رأوا أحداً يشرب الشاي فإنه لا يحتاج إلى دعوتهم إليه، فالذي يرغب في شرب الشاي يتقدم إليه.
- فرد عليه العربي: لكننا في الدول العربية نشرب القهوة، ويسمع الجيران قعقعة دقّها في مهراس النحاس فيقوم ذلك مقام الدعوة، بينما يحضر الشاي من دون صوت.
أو قوله وهو يصف هذا الشعب المضياف البشوش: «كان علي أن أتبادل بعض عبارات التحية والمجاملة، وشرب عدد لا يحصى من كؤوس الشاي التي كانت تقدَّم لنا حيثما ذهبنا».
ويتخلل هذه المشاهد التي يسوقها المؤلف كثير من انطباعاته الشخصية وانفعالاته، وهو ما أعطى المشاهد حيوية أكثر، فهو لا يخفي دهشته وهو يصف منظر المصلين: «عشرون ألف مؤمن يتراصون في صفوف منتظمة، يقفون في ثبات وسكون: باسم الله، فعمّ الحرمَ الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالإيمان في صمت: الله أكبر، فيرد الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: الله أكبر!».
ومن زاوية أخرى ينقل لنا الكاتب كثيراً من العادات التي لا يزال بعضها إلى وقتنا هذا، كالحرص على امتلاك السُّبَح، وبخاصة المصنوعة من العاج.
أما على مستوى تراثها العمراني فهو يصور بكلماته أنه «تتوافر جميع بيوت مكة المكرمة على سطوح محوطة بأسوار منخفضة مبنية من اللِّبن المصفوف على شكل مربعات منسقة، بينها فراغات، وهذا الوضع يسمح بمرور الهواء بحرية دون أن يكشف الجار بيت جاره».
ومن حيث الزي فقد بين أن اللباس السائد هو الثوب المصنوع من كتان الموسلين المستورد من تريبيزوند، أو القفطان، أو القطن المستورد من الهند.
كما لم يفُته أن يتحدث عن التركيبة السكانية إذ يقول: «أعتقد أن سكان مكة المكرمة بلغوا نحو 100.000 نسمة، أغلبهم من الهنود الذين تبلغ نسبتهم نحو 75 %».
ولقد نقل لنا ما كانت تتمتع به مكة المكرمة من ازدهار في الصناعة، وبخاصة صناعة الجواهر والمعادن الثمينة، ومشاركة المرأة في العملية التجارية، كقوله: «ودخلنا في مفاوضات مع البائعة العجوز ذات الفم الأثرم التي تملك الحلي»، بل إن من غريب ما نقله أن الذهب كان يباع عن طريق وزنه بحبات الفول وحبات الرصاص ونوى التمر وقطع صغيرة من العنبر!!
ومما يحسب للناشر إلى جانب طباعته لهذا الكتاب تحقيقُه كثيراً مما يورده المؤلف من معلومات، وتعليقه عليها في الحاشية دون تدخل في نص المؤلف لما تقتضيه الأمانة العلمية، وبخاصة أن كثيراً من التعليقات تقتضي التصويب لما يتصل بها من جانب عقدي أو ناحية تاريخية، من قبيل قوله: «لا يمكن للمسيحي في نظر (المسلمين) أن يبتلع جرعة واحدة من (ماء زمزم) دون أن تنسد حنجرته»! فقد علق الناشر بأن «هذه الرواية من المغالطات التي نسجها خيال الغربيين حول ماء زمزم، لكنه لا يوجد لدى المسلمين أي معتقد بهذا».
ولقد استوقفتني هذه العبارة الجميلة للمؤلف: «إن الحج إلى مكة المكرمة لا يعطي لأحد الحق في حمل أي علامة مميزة، أو صفة خاصة، أو شهادة».
وأنا إذ أزجي جزيل الشكر لمؤسسة التراث على هذا الاهتمام بنشر التراث أبدي إعجابي بحصافة المحقق الفاحص المتثبت، الذي لا يدع المعلومة تمرّ دون أن يوضح ما يكتنفها من ملابسات.
إننا بحق بحاجة ماسة إلى مثل هذه المؤسسة الرائدة في مجالها. والله الموفق.