لا غرابة حين تسمع أو تقرأ عن رحّالة يجوب البلدان ويستكشف الفيافي والقفار، ويرى المشاهد الغريبة عليه والتي لم يألفها كونه قادماً من بيئة مختلفة شرقية كانت أم غربية، وجزيرة العرب ليست بمنأى عنهم، ولم تفتقد هؤلاء فهم فيها بين الحين والآخر، مثل: رونالد كواري، وبرترام توماس، وبوركهارت، وسادلير، وفيلبي، وغيرهم الكثير، والقائمة تطول وتطول، يأتون لها ويطوفون بين مناطقها وبلدانها وسهولها وجبالها ويدرسون أحوالها وأحوال الناس فيها، ويروون حكاياتهم ومواقفهم عبر كتبهم وتقاريرهم التي ينشرونها أو يتلقفها الناشرون والمهتمون فيخرجونها للناس، وتعتبر تلك القراطيس المتضمنة يوميات المسافر ومرويات أحداث وقته الدقيقة من أمتع المؤلفات وأكثرها قبولاً من العامة والخاصة، كونها تصف وقتاً عز فيه المدون والراوي فضلاً عن وجود آلات التصوير مع أولئك الرحالة فنقلوا واقع البيئات المختلفة والمتنوعة بكل تفاصيلها الدقيقة والرائعة.
وحين تقرأ تلك القصص والسطور الوصفية فإن خيالك سيحلق بك إلى تلك الحقبة وقد تتقمص من المتعة والاندماج أدوار بعض أبطال تلك القصص الذين عاشوا فيها، ونحن هنا، لسنا بصدد تصنيف أولئك الرحالة والمستكشفون وتصنيف أغراض رحلاتهم ومغامراتهم في صحرائنا وعلى رمالنا وبين ربوعنا.
ولكن دعونا نقلب بعض أوراق أحد هؤلاء وهو الذي ولد في أديس أبابا عام 1910م حيث كان يعمل والده وزيراً مفوضاً لبلاده، ونشأ على حب الاستطلاع والاستكشافات فجال في بعض دول أفريقيا كالحبشة والسودان، قدم للجزيرة العربية وهو يطمح أن تطأ قدمه فوق أرضها وتلفحه رياحها ويجد عبق أوراق شجيراتها ويرتوي من زلال مائها، ويتشرب من أصالتها وأصالة قاطنيها، فقدم صاحبنا هذا أولاً إلى الحجاز ثم بدأ رحلته على الجمال عبر جبال السروات ينتقل من بلد لآخر حتى حطت قدماه وأراح راحلته في عسير ثم خاض غمار الصحراء عبر الربع الخالي إلى السليل ومنها إلى أبوظبي، وهذه الرحلة تمثل إحدى رحلاته التي قطع فيها مجاهيل الربع الخالي وغامر بحياته من خلاله، وسرعان ما ألف هذا الرحّالة تراب الجزيرة العربية وبادل الحب سكانها، فتحولت صعوبة العيش وشظفه إلى عشق وغرام لها، يقول في مقدمة كتابه: «منذ تركت جزيرة العرب سافرت عبر شعاب كراكورام وهندوكوش في جبال كردستان ومستنقعات العراق، مدفوعا دائما إلى الأمكنة البعيدة، حيث لا تستطيع السيارات الوصول، وحيث لا يزال يعيش شيء من العادات القديمة، ولقد رأيت قسما من أروع المناظر في العالم، وعشت بين قبائل عجيبة وغير معروفة، ولكن واحداً من هذه الأمكنة لم يهزني كما فعلت صحراء الجزيرة العربية»، سماه البدو مبارك بن لندن حين ارتدى الثوب العربي والغترة والعقال وأحب النبل والشجاعة والكرم فيهم، وأقام معهم صداقات حميمة، إنه ويلفرد ثيسجر الرحّالة البريطاني الذي قضى خمس سنوات في الترحال عبر الجزيرة العربية 1945م-1949م، واجه فيها الموت والجوع والخوف وكان مرافقوه رجالاً أشداء أشاوس، وفق ويلفرد ثيسجر في اختيارهم، وهم ابن كبينه، وابن غبيشه، وعمير بن عمر، ومحمد بن صالح بن كلوت، عاش معهم ويلفرد وأكل وشرب واستأمنهم على ماله وسلاحة ومؤونته، لأنه وجد الأصالة العربية والأخلاق العظيمة فيهم، المستمدة من دين عظيم يؤمن به هؤلاء، فرغم صغر أعمارهم إلا أن أعمالهم أعمال الكبار، وتصرفاتهم تصرفات الأجلاء، وكلامهم كلام العقلاء الحكماء، فواجهوا معه أصعب المواقف في صحراء الربع الخالي، فمن مطاردة اللصوص وسرقة الإبل إلى نقص الزاد والماء، في حين أنه لا ينقص عنهم في الخلق والاحترام، وإبداء الإعجاب وشكرهم على كل صنيع لهم، يقول سالم بن كبينه عن مبارك بن لندن في كتاب (عابرو الربع الخالي - مرافقو مبارك بن لندن يتكلمون) للشاعرةهويدا عطا: «إنه رجل لا يعرف الخوف من وحش أو عدو، معطاء يحب الإحسان للفقراء ويمتاز بخلق كريم» ويقول أيضاً: «كان يحترم شعائرنا الدينية وعندما كانت تحل مواعيد الصلاة يتوقف عن المشي ويقول لنا: هيا أقيموا الصلاة، وكان في شهر رمضان يراعي مشاعرنا ولا يأكل أو يشرب أمامنا ويحترم صيامنا وكان يعرف المواقيت من الساعة التي يلبسها» أهـ.
كان مبارك بن لندن يتكلم العربية ويرتدي لباساً عربياً وكان بسيطاً وحاجاته بسيطة أيضاً، فهي لا تزيد عن كاميرا وكراسة يسجل فيها كل شيء يمر به ويراه جديراً بالتوثيق والتسجيل، استطاع الانسجام مع عادات وتقاليد البدو ويتآلف معها، حتى أحبوه.
ألف ويلفرد ثيسجر كتاباً وصف فيه رحلته ترجم إلى العربية باسم «الرمال العربية»، احتوى على حكاياته مع رفقاه الأربعة وذكرياته معهم في قلب صحراء الربع الخالي ومسيرته حافياً فيها من الغرب إلى الشرق وفي رحلات أخرى من الشرق للغرب، وفيه تصوير دقيق لجغرافية المناطق التي مر بها إضافة إلى الصور الرائعة التي ضمنها الكتاب، والتي كان حريصاً كل الحرص على التقاطها، فهي قمة التوثيق وربوة التدوين.
يقول مبارك بن لندن عن صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- «الملك عبدالعزيز كان أعظم ملك في تاريخ العرب يحكم الجزيرة العربية» أهـ، فقد كان لتوحيده البلاد -بعد توفيق الله له- في ترسية دعائم الأمن والأمان للمقيم والمسافر، يؤكد هذا ما جاء على لسان محمد بن صالح بن كلوت في كتاب هويدا عطا في أنه حين وصلوا منطقة السليل قبضت عليهم السلطات السعودية بحكم دخولهم دون إذن من الدولة أو تصريح، وخضعوا للتحقيق، وأثناء ذلك جاءت برقية من الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- أن يتركوهم لحالهم ويخلوا سبيلهم، وجاءت هذه البرقية مؤكدة على بعد نظر جلالته، ورغبته في دعم الرحلات العلمية والاستكشافية لمناطق قلت عنها المعلومات والإحصاءات، ولكن بعلم الدولة، وتحت نظرها، وبإذن منها.
أثناء قرأتي لهذا الكتاب -الرمال العربية- استوقفتني حادثة رواها فيه مبارك بن لندن (ويلفرد ثيسجر) خفق فيها وجدانه ورق وخشع فوق رمال الربع الخالي قلبه، (وأترك التعليق عليها واستنباط مايستفاد منها لك أخي القارئ الكريم)، يقول: «كان رفاقي يستيقظون عند بزوغ الفجر ثم يرتفع صوت أحدهم بالأذان داعياً إلى الصلاة: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)، كان المؤذن يردد كل جملة مرتين ماعدا الجملة الأخيرة، وكان للرنة الموسيقية للكلمات وقع غريب على نفسي رغم أنني لا أشاركهم المعتقد».
ختاماً أقول : إن مثل هذه الرحلات والوقائع تعيدنا إلى تاريخ مجيد لأمتنا العربية والإسلامية لتصوره عبر زاوية مختلفة وفكر مختلف، وهي -في الحقيقة- زيادة برهان على أصالتنا ورقي تعاملنا حتى مع من يخالفنا المعتقد ويحمل أيدلوجية لا تتفق مع أيدلوجيتنا، ويبرهن كذلك على أن أجدادنا رباهم هذا الدين الخالد وحملوا العقيدة السمحة، فكانت دعوتهم العملية أسبق من دعوتهم القولية. لذا أحبهم وأحب أرضهم كل من مر بهم، وأصبحت الجزيرة العربية مهوى أفئدة العالم ولاتزال قبلة المسلمين إلى يوم الدين.