مما لفت أنظار المفسرين في استعمال القرآن الكريم ما جاء في قوله تعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}[ البقرة-7]؛ إذ جاء (سمعهم) واحدًا في مقابل (قلوبهم)، و(أبصارهم) الجمع، فلم يقل أسماع، واختلفت أقوال المفسرين في هذا، فمنهم من نظر إلى بنية اللفظ فرأى أنّ (السمع) مصدر أو هو في أصله مصدر، والمصدر مبهم الدلالة عام يقع للقليل والكثير، ومنهم من التفت إلى أصل اللفظ فالسمع عنده هو آلة يدرك بها المسموع، وهي منقولة من المصدر أي سميت بالمصدر، والمصدر واحد، ومنهم من نظر إلى أثر التركيب في الدلالة وما يكتسبه اللفظ بتضامه مع غيره من الألفاظ، فالسمع هنا أضيف إلى ضمير الجماعة، ولأجل هذه الإضافة صار يمكن للمضاف أن يستعمل فيه الأصل وهو الجمع، وأن يستعمل فيه الإفراد بسبب اكتسابه الدلالة الجمعية من المضاف إليه، قال: الراغب الأصفهاني(502) في تفسير(1: 92): «وقيل: المضاف إلى الجمع يصح جمعه على الأصل، وإفراده على الإيجاز اعتمادًا على المضاف إليه». ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة «وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ» (الزمخشري، الكشاف، 1: 52). وقال القرطبي (تفسيره، 1: 190): «إِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْجَمَاعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَسْمَاعُ الْجَمَاعَةِ».
ولمثل هذا الاستعمال نظائر ذكرها القرطبي قال «قَالَ الشَّاعِرُ [علقمة بن عبدة]:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا
فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
إِنَّمَا يُرِيدُ جُلُودَهَا فَوَحَّدَ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ جِلْدٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ آخَرُ [المسيب بن زيد مناة الغنوي] فِي مِثْلِهِ:
لَا تُنْكِرِ الْقَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا
فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا
يُرِيدُ فِي حُلُوقِكُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
كَأَنَّهُ وَجْهُ تُرْكِيَّيْنِ قَدْ غَضِبَا
مُسْتَهْدَفٌ لِطِعَانٍ غَيْرُ تَذْبِيبِ
وَإِنَّمَا يُرِيدُ وَجْهَيْنِ، فَقَالَ وَجْهَ تُرْكِيَّيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا».
ومنهم من تأوّل النص على أنه من قبيل ما جرى فيه حذف وأن السمع مضاف إليه أقيم مكان المضاف المحذوف، قال الزمخشري (الكشاف،1: 52): «وأن تقدّر مضافا محذوفًا، أي: وعلى حواس سمعهم»، وقال القرطبي: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعَلَى مَوَاضِعِ سَمْعِهِمْ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يُخْتَمُ وَإِنَّمَا يُخْتَمُ مَوْضِعُ السَّمْعِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ».
وكما جاء في الشعر إفراد في موضع الجمع جاء ائتلاف بينهما في القرآن الكريم قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[ الأعراف-157]، وقوله {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} [النحل-48]، وقوله {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة-257]؛ ولذلك قال القرطبي (تفسيره، 7: 301): «فَمِنْ شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء وَاحِدٍ أَنْ تَجْمَعَ إِحْدَاهُمَا وَتُفْرِدَ الْأُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ}، وكقوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} وَلَوْ قَالَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَإِلَى الْأَنْوَارِ لَجَازَ».
كل هذه الأقوال جيدة سائغة ولكن الأرجح عندي والأدنى إلى القبول ما أشار إليه محمد صديق خان في (فتح البيان في مقاصد القرآن، 1: 89) قال: «أو لوحدة المسموع وهو الصوت»، وهذا واضح إذ الصوت يسمعه الناس في صورة واحدة فلا يتعدد المسموع، وإن أمكن تعدد فهمه، أما المبصر فتتعدد صوره بحسب موقع كل مبصر، فترى عين ما لا ترى أخرى؛ ولذلك كانت أبصارًا بعدد المبصرين، وأما المسموع فواحد وإن تعدد السامعون.