عندما يتحدث المرء عن رحلة الحج المباركة إلى الأماكن المقدَّسة تظهر أمامه صورة الوحدة الإسلاميَّة الحقيقية في منهج هذا الدين العظيم الذي يربط جميع الأمم الإسلاميَّة في عقيدة واحدة «فهي عقيدة التوحيد» التي تعتبر الركيزة الأولى التي يجتمع العرب والعجم، ويستوي الصغير والكبير والغني والفقير ويلتقي فيه النَّاس من كل حدب وصوب من المشرق والمغرب... وفي عبادات هذا الدين تتجلّى هذه الصُّور عملياً بصورة ملموسة ففي الصّلاة وحدة التوقيت - مرتكزة على حركة كونية من طلوع الشَّمس إلى غروبها، ووحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى بيت الله الحرام، وتبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة المشرّفة، ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقاً وغرباً.
ففي الصيام وحدة الزمن بالصوم شهر واحد للجميع ووحدة الشعور بالتعاطف والتراحم ويبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام، أما الزكاة فهي تضامن إلزامي يربط طبقات مختلفة من أُمَّة بعضها ببعض ويقارب بين من باعدت بينهم المادَّة ويجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر، حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله بحسن نيَّة وطهارة نفس أما الحج فهو مظهر من أعظم مظاهر التضامن الإسلامي والوحدة في العقيدة فإن فريضة الحج إلى بيت الله الحرام «تعتبر دروساً عمليَّة « تذكر المسلمون قاطبة كل عام بأنهم أُمَّة واحدة وإن اختلفت بينهم الأجناس وتباعدت بينهم الأوطان والمسافات وتباينت بينهم اللغات والعادات والتقاليد يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) سورة الأنبياء. فعندما يلتقون المسلمون القادمون من كل فج عميق من أقطار المعمورة حول بيت الله الحرام وحول الكعبة الشرفة وفي المشاعر المقدسة يصدق قول الله عزَّ وجلَّ فيهم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (10) سورة الحجرات، حيث تعتبر وحدة الأُمَّة بين هذه الجموع الغفيرة من المسلمين هي رابطة المودة والمحبة والتعاون والتراحم والتكاتف والتآلف عملاً بقول نبي هذه الأُمَّة المحمَّديَّة صلوات الله وسلامه عليه (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ففي رحلة الحج المباركة تدور بخلد كل مسلم ومسلمة أن هذه الأعداد المؤلّفة من البشر الذين هداهم الله وأنعم عليهم بنعمة الإيمان جاءوا ملبين طائعين لأمر الله سبحانه وتعالى لهم في قول الحق تبارك وتعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } (103) سورة آل عمران، فالمسلمون قاطبة عبَّر عنها نبي الأُمَّة محمد صلوات الله وسلامه عليه بقوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
كل هذه الأمور والمعاني والأسس تدور في تفكير المسلم وهو في رحلة الحج، وينتهي من أداء الفريضة، وقد وقرّ في نفسه انطباع بأن تآلف القلوب وتوحيد الصفوف وامتزاج المشاعر هو الطابع الذي يميّز المسلمين عمّن سواهم من بقية الشعوب الأخرى، مذهبهم واحد وكتابهم وقبلتهم واحدة، وتحركهم في رحلة الحج من نسك إلى نسك يكون في وقت واحد ومكان واحد، ومظهرهم في ملابس الإحرام واحدة، كل هذه المعاني الجميلة ترسّخ في نفس المسلم وحدة الأُمَّة وتماسكها ومن خلال هذه المعاني السامية يشعر المسلم تجاه أخيه المسلم - أياً كان جنسه - بشعور المحبة والمودّة... بأنه قوي بمؤازرتهم فجميع من حوله إخوانه فإنه لا ينظر أن يكون عربياً أو عجمياً، فوارق الجنسيّة في الأُمَّة الإسلاميَّة الواحدة لا قيمة لها.. لأنها رموز ومسميات من صنع البشر.. ولكننا جميعاً وحدة متكاملة كلنا لآدم وآدم من تراب لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى في رحلة الحج يتلاقى الأعداد من الأجناس المختلفة كنموذج مصغّر للعالم الإسلامي يلتقون في حرم الله وفي بلد الله الآمن وفي مهوى الأفئدة وفي مهبط الوحي.
حيث بزغ فجر هذا الدين وتفرّعت أشعته وامتدت حتى وصلت أقصى المعمورة فأنار الحياة وهدّد الطغاة، حيث إن الوحدة الإسلاميَّة الحقَّة إنما تقوم على أساس ثابت من الإيمان بالله، والتمسك بكتابه، والسير على هداه.
إن وحدة الأمة الإسلامية وتمسكها بالمثل العليا فهي علامة مميزة وبارزة على السطح بين المسلمين فهم يشتركون في منبع واحد ومنهل عذب لا ينضب فهو كتاب الله وسنّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يجمعهم تاريخ واحد ومستقبل واحد ومصير واحد ويتحدون في شعائر العبادات فيؤدونها بطريقة واحدة وبأسلوب واحد، وفي وقت واحد ويتجهون لقبلة واحدة - وصلاة الجماعة من أعظم مظاهر هذه الوحدة والحج على وجه الخصوص في مظهره ومضمونه والتقى الشعوب المختلفة.. وطوافهم في اتجاه حول بيت الله الحرام.. وسعيهم أيضاً ووقوفهم بعرفة وكل هذه الأعمال سالفة الذكر تعمق معنى الوحدة في نفوس الأمة وتوجِد أرضاً صلبة لوحدة متكاملة ومترابطة في مواجهة أعداء الأمة والذود عن حياض هذا الدين العظيم.
حيث إن الوحدة الإسلاميَّة تتلاشى أمام رابطة النسب والجنس واللون والعرق فتسمو رابطة هذا الدين فوق كافة الروابط، حيث إن هذه الرابطة الحصينة المنيعة هي التي تمكننا من التصدي لأعداء الأُمَّة - وما أكثرهم في هذا العصر الذي نعيش فيه حيث يموج العالم ويضطرب بإلحادهم وكفرهم، وجميع تياراتهم الفكرية التي لا هدف لهم إلا القضاء على أُمَّة الإسلام والوقوف في وجه الصحوة الإسلامية والتصدي لهذا المد الإسلامي الذي لاح في الأفق بوادره الطيبة، وسمع العالم كله صوت المسلمين من جديد في شتى أنحاء المعمورة. ومن فضل الله وكرمه على المسلمين أن معاني الوحدة الإسلامية برزت على السطح وتبنتها الشعوب الإسلاميَّة في كافة الندوات والمؤتمرات وأصبحت شغل الأُمَّة الإسلاميَّة الشاغل مما جعل الوحدة تقف سداً منيعاً أمام كافة التيارات المنحرفة والمعادية التي لا تخدم سواء أعداء الأمة الإسلامية قاطبة والتي وضح فسادها وخلوها من أي مضمون كان وبقدر تماسك شعوب الأمة وترابطها وتكاتفها وتعاونها يتحقق بإذن الله تعالى لها جميع سبل الخير من أمن واستقرار ورخاء.
والله الموفّق والمعين.