تمر الأمة المسلمة بمراحل عصيبة وظروف صعبة وأزمات خانقة؛ فجسدها منهك وجروحها تنزف، ابتعدت مسافات هائلة عن قراءة واقعها ووعيها للأحداث المتزاحمة عليها، لكن من نعم الله عليها أنها تمرض لكنها لا تموت.. تغيب ثم تحضر حضوراً مشرفاً قوياً، وأيضاً من نعم ربنا سبحانه على هذه الأمة أن ضربات العدو والجروح التي يصيب بها جسد الأمة تبعث فيه الحياة وتبث في أوصاله الحركة فيشفى ويتعافى، وتصبح الأمة أمة حاضرة بقوة في المشهد مستعدة للقيادة والمنافسة بين الأمم..
وأيضاً من النعم الكبيرة والفضل العظيم الذي أكرم ربنا سبحانه فيه هذه الأمة هي نعمة هذا الدين الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (3) سورة المائدة.
فالإسلام شرعة ومنهاج، وطريقة وأسلوب حياة؛ فتعاليم ديننا وأحكامه وشرائعه هي نعمة وحياة لهذه الأمة عندما تعلم بها وتطبقها فالحياة حياة القلوب مهما كانت الأجساد ضعيفة ومنهكة، فلا قيمة لجسد قوي البنية مفتول العضلات وقلبه ميت وبصيرته عمياء.
ولذلك من حكمة الإسلام أنه نظم عبادات ومناسبات هذه الأمة وحدَّد أوقاتها وزمانها ومكانها، والحج موسم عظيم ومشهد كبير تتدفق إلى مكة وفود الحجيج من كل مكان وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) سورة الحج.
في مكة، وعلى ثرى الأرض المقدسة وبجوار البيت المقدس والكعبة المشرفة تتقارب الأجساد وتتعانق القلوب وتتآلف تحيا القلوب وتتجدد النفوس، ويصبح المسلمون إخوة كبيرهم وصغيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم، غنيهم وفقيرهم، أبيضهم وأسودهم بلباس واحد وبلسان واحد (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
فالحج موسم عبادة كبير، وفرصة لهذه الأمة المنهكة أن تتقارب وتتآلف، وأن تتراحم وأن تجدد نفوسها وتغسل أحقادها وأضغانها وأن تنبذ عداءاتها وتصبح أمة متآلفة متوادة متحابة، تؤدي مناسكها وكلها طمأنينة وروحانية، وأن تعود إلى أوطانها وبلدانها وقد شربت من ماء زمزم واغتسلت من ذنوبها ومعاصيها فلم ترفث ولم تفسق ولم تشاكس وتعادي وتجادل فتعود إلى أهلها بأجساد جديدة وقلوب حية جديدة.
فإذا كان التقارب والتواصل بين الشعوب يقرِّب ويزيل الوحشة ويمهد للألفة، فما بالك عندما ترعى هذا الاحتشاد أرض مقدسة وبجوار بيت مقدس وتنظمه تعاليم دين وتلهج بلسانه أصوات الملبين والمكبرين والحامدين والشاكرين، فعلينا معشر حجاج بيت الله أن نستشعر المعاني والحكمة العظيمة للحج، وأن تحج قلوبنا قبل أجسادنا فليس الحج فقط تأدية مناسك، وإنما هو إيمان وتقوى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) سورة الحج.
وعندما يشتد الزحام ويضيق المكان هنا يتجلى الصبر والحلم وحسن الخلق؛ فالمكان واحد والهدف واحد واللباس واحد؛ وكلنا نجتهد في تأدية منسك وعبادة من أجل إرضاء ربنا الواحد الأحد سبحانه وتعالى.. الله أكبر.. الله أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد).