تعقيباً على ما يُنشر في «الجزيرة» من مواضيع تتعلق بوزارة الشؤون الاجتماعية، أقول إنه في عام 1375هـ تم افتتاح دار الأيتام بالزلفي مع مجموعة من الدور مماثلة لها في مختلف مدن وقرى المملكة آنذاك في الرياض وبريدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وأبها وجدة والدمام والأحساء والأفلاج والدوادمي وبيشة وعنيزة والرس والدلم ونجران والمجمعة ومدن وقرى أخرى لا تحضرني أسماؤها في الوقت الحاضر، وكانت هذه الدور كلها تحت مظلة الرئاسة العامة لدور الأيتام في ذلك الوقت التي تحولت فيما بعد للرئاسة العامة للدور الاجتماعية، وتغير اسمها إلى دور التربية الاجتماعية تحت إشراف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك، وضم معها إشرافياً دور العجزة التي تحول اسمها إلى دور الرعاية الاجتماعية، ودور الأحداث التي تحول اسمها إلى دور التوجيه الاجتماعي.. كل هذه الدور - أو قل المدارس إن شئت - تعيش بالنظام الداخلي المتوافر فيه السكن والإعاشة والدراسة ما عدا دور الرعاية الاجتماعية لكبار السن؛ إذ لا يوجد لديهم دراسة. ولقد تم افتتاح هذه الدور جميعاً في عهد الملك سعود - رحمه الله رحمة واسعة - الذي أمر بافتتاحها إيماناً منه بأهميتها، ولشعوره بأهمية تلك الفئات في المجتمع، وأنهم بحاجة إلى رعاية ومساعدة، وهذا ما تم بالفعل.
وقد التحق بدار الأيتام بالزلفي (محور حديثنا) عددٌ لا بأس به من الطلاب الأيتام وذوي الظروف الأخرى المماثلة لهم، وكان النظام في الدار داخلياً، يتم فيه نظام دقيق جداً من دراسة وسكن ومتابعة. فالدراسة بالدار تبدأ في الصباح الباكر، وتنتهي عند أذان الظهر، ومن ثم تؤدَّى الصلاة، وبعدها تقدم وجبة الغداء الفاخرة التي تحتوي على الأرز واللحم والمرق وبعض الأنواع الأخرى، وكان لهذا النوع من الطعام في ذلك الوقت أهمية كبيرة جداً في نفوس الطلاب؛ إذ إن غالبية الناس لا يحصلون على مثل هذا النوع من الطعام خلافاً لما هو عليه الوضع الحالي بحمد الله وشكره، ثم بعد الانتهاء من تناول وجبة الغداء يكون هناك فترة راحة هادئة منظمة بالصيف، تتخللها القيلولة، وبالشتاء تكون تلك الفترة مفتوحة، وبعد صلاة العصر يكون هناك بعض الأنشطة، وبعد صلاة المغرب تناول طعام العشاء المماثل لطعام الغداء، ثم تؤدَّى صلاة العشاء، وبعدها هناك نظام صارم جداً بأن يلزم كل طالب فراشه في المهجع الذي أُعدّ لهذا الغرض تحت إشراف دقيق، ويكون للطلاب الحرية للقراءة أو الحديث بهدوء مع بعضهم، وبعد ساعة كاملة يتم النوم، ولا يتأخر عن هذا النظام أحد، وخلال الليل يكون هناك موظفون ساهرون يسمون بمراقبي الليل، وقبل أذان الفجر بقليل يتم إيقاظ الطلاب لتأدية الصلاة، وبعدها تقدم كلمة أو نصيحة أو بعض الإعلانات والكلمات المفيدة، ومن ثم تناول طعام الإفطار الذي يحتوي على الخبز والحليب والجبن والزيتون والطحينة (تصوروا كل هذا يقدم بحمد الله في ذلك الوقت)، وهذا الإفطار شبه معدوم عند غالبية الأسر، ولكن الآن بحمد الله وشكره الكل يشهد على توافر هذه النعمة لدينا، وهي بالمناسبة تحتاج إلى شكر بالقول والفعل معاً، واحترام النعمة التي أنعم الله بها علينا.
يبدأ حضور الطلاب للدار من صباح السبت، ويحق لمن يريد الحضور مساء الجمعة حتى ظهر الخميس، ومن ثم يذهب الطلاب لأسرهم للزيارة يومي الخميس والجمعة فقط. يقدم في الدار للطلاب كسوة أنيقة، تحتوي على ثوبين في الصيف وغترتين مع ملابسها الداخلية وأحذية، وما يماثلها تماماً بالشتاء، مع اختلاف النوع حسب الزمن، ويتم غسل تلك الملابس بالدار تحت نظام دقيق أيضاً. أما أمتعة النوم فلكل طالب سرير كبير جداً ومرتبة من النوع الراقي جداً ومخدتان وبطانيتان، وما يتبعهما من الشراشف، ويُعامَل كل هؤلاء الطلاب معاملة جيدة تحت إشراف ونظام دقيق جداً.
تتكون الدار من مدير ومراقبين للنهار والليل وإمام الصلاة مع المؤذن ومجموعة من المدرسين والفراشين وحراس للدار يتناوبون على ذلك وغسالين ومتعهدين للسقيا وإحضار الطعام وطباخين، ويجد الطالب في الدار عناية كاملة من دراسة وأكل وترتيب ولباس ونظافة وتربية جيدة، وكل الطلاب في ذلك الوقت يحبون مدرستهم جيداً والمكوث فيها؛ لما يجدونه من خدمة ممتازة يأتي في مقدمتها الأكل النظيف وغير المتوافر في ذلك الوقت، والسكن المريح، وغير ذلك كثير.
وكان من ضمن طلاب الدار مجموعة جيدة، تبوءوا مناصب قيادية في الدولة، وغالبيتهم أكملوا تعليمهم. وفي عام 1378هـ، أي بعد ثلاث سنوات من الافتتاح في مدينة الزلفي، صدر قرار بنقل تلك الدور وضمها في دار واحدة بالمدن الكبرى فقط، كالرياض ومكة والمدينة وجدة والدمام وبريدة وغيرها، ووضع الاختيار للطلاب والموظفين لمن يرغب في الانتقال من عدمه. ولقد تم انتقال مجموعة كبيرة من الطلاب والموظفين من الزلفي إلى الرياض حتى أكملوا تعليمهم الابتدائي، ومن ثم التحقوا بالمراحل الأخرى كالمتوسطة ومعاهد المعلمين والمعاهد العلمية والمدارس الصناعية، ومنهم من التحق بالقطاع العسكري أو الوظيفة، وكل هؤلاء الطلاب انخرطوا في الحياة العامة خدمة لأنفسهم وخدمة لوطنهم حتى تم تقاعدهم لبلوغهم السن النظامية وهم يلهجون بالدعاء ويطلبون الرحمة لمن أمر بتأسيس هذه الدور، جلالة الملك سعود - رحمه الله - الذي كان له فضل كبير بعد الله في تشجيع العلم وطلابه والعناية بالفئات المحتاجة سيراً على نهج والده الملك عبدالعزيز - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - ومن بعده إخوانه الذين ساروا على هذا النهج حتى هذا العهد الزاهر الذي قفزت فيه المملكة - بحمد الله - قفزات كبيرة في شتى المجالات، يأتي في مقدمتها التعليم.
بقي في هذه العجالة أن أشير إلى أن دور التربية الاجتماعية في المدن الكبرى ما زالت موجودة تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي - بلا شك - تحتاج إلى متابعة واهتمام أكثر، وقد أُقيمت جمعية للإشراف على دور الأيتام المسماة (إنسان)، وفي رأيي المتواضع أن من الأفضل والأجدر أن يكون الإشراف المباشر عليها والصرف عليها من قِبل الدولة؛ حتى تقوم بواجبها تماماً، مثلها مثل تلك الدور التي أُنشئت قبل ستين عاماً، وهذا الرأي - ولا شك - قابل للنقاش، لكن ما أتمناه أن يلقى قبولاً حتى تنعم هذه الفئة بالرخاء أسوة بمن شملتهم الرعاية الكبرى من قِبل الدولة.
وليعذرني الإخوة القراء على سرد هذه القصة باختصار داعياً الله في النهاية أن يغفر للملك سعود ويرحمه رحمة واسعة ووالديه وإخوانه من بعده، وأن يحفظ لنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، إنه سميع مجيب.