فيا أسفي لجسمك كيف يبلى
ويذهب بعد بهجته سناكا
في هذه الآونة القريبة تراكمت الأحزان وحطت بآلامها ولهيبها على قلوبنا بفقد الكثير من أقارب وأحبه ومن زملاء ومعارف وجيران مما كان له بالغ الأثر في النفوس، بتذكر و عد محاسن من رحلوا عنا وسكنوا باطن الأرض، فاستحال مجيئهم إلينا:
والشرق نحو الغرب أقرب شقة
من بعد تلك الخمسة الأشبار
وهذه سنة الله في خلقه حياة ثم موت إلى يوم النشور يوم يخرجون من أجداثهم سراعاً، فموت كل غال عزيز على النفس تبقى ذِكراه خالدة مقيمة بين الجوانح والقلب، فمن أولئك الأحبة الذي أحزننا غيابه وفراقه، الشيخ الأستاذ الفاضل عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز العبدان -أبو فهد- الذي فرت روحه الطاهرة إلى بارئها بعد ظهر يوم السبت 29 - 11 - 1434هـ في منزله بين أبنائه وبناته وعقيلته (أم فهد).. ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حالهم في تلك اللحظة الحاسمة المحزنة، وقد أُجهشوا جميعاً بالبكاء وأبكوا من حولهم من الأطفال الذين اعتادوا الجلوس على مقربة منه مُداعباً ومانحاً لهم من عطفه وحنانه، -كان الله في عون الجميع ورحمه المولى رحمة واسعة-، ولقد ولد بمدينة بريدة في منطقة القصيم عام 1348هـ، وله من الأبناء ثلاثة كل منهم يعمل في وظائف حكومية مرموقة، أما البنات الفضليات فسبع.. وقد تلقى تعليمه المتوسط والثانوي بدار التوحيد بالطائف، حيث نال الشهادة الثانوية عام 1370هـ؛ ويعتبر من الدفعة الثالثة بها، ثم الشهادة العالية ليسانس في الشريعة واللغة العربية من كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1374هـ، بعد ذلك حصل على دورة تدريب تربوية من الجامعة الأمريكية في بيروت بلبنان عام 1375هـ كما حصل على شهادة التدريب في التخطيط التربوي وإعداد المناهج واقتصاديات التعليم من المركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في البلاد العربية ببيروت عام 1385هـ لمدة سنة.. ولقد تسنم عدداً كبيراً من الوظائف التعليمية والثقافية بدءاً من صدور أمر صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز وزير المعارف في ذاك الوقت -رحمه الله- بتعيينه مديراً للمدرسة الثانوية بعنيزة عام 1374هـ، ثم تعيينه مديراً للتعليم بمنطقة أبها 1375هـ، بعد ذلك نقل مديراً للتعليم بمنطقة الطائف 1379هـ؛ ثم تم نقله لجهاز وزارة المعارف كمساعد أول لمدير عام الشئون الإدارية عام 1382هـ، ومديراً عاماً للتعليم الثانوي عام 1386هـ، وتم تعيينه ملحقاً ثقافياً بالجمهورية العراقية عام 1391هـ، ثم نقل من العراق إلى جمهورية مصر العربية كملحق تعليمي عام 1398هـ.. واستمر هناك حتى عام 1408هـ، حيث أنهى مدة الخدمة النظامية تاركاً ذكراً حسناً وسمعة معطرة بالثناء.
ولِما يتمتع به من سمعة طيبة وحنكة ودراية ومعرفة بأحوال الكثير من الناس تم ترشيحه من قبل الأمير المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض (آنذاك) ورئيس جمعية البر الخيرية كمدير عام لجمعية البر الخيرية بالرياض عام 1408هـ، وخدم فيها أكثر من خمسة عشر عاماً، وتعتبر خاتمة خير وبركة له، وأخيراً قدم استقالته لظروفه الصحية عام 1423هـ.
حميدة أيامه ولياليه -رحمه الله رحمة واسعة-، وكان (أبو فهد) يتمتع بأخلاق عالية ولين جانب وكرم، ولقد سعدت بمعرفته منذ بداية عام 1371هـ وكنت إذ ذاك طالباً في السنة الأولى بدار التوحيد أنا وشقيقيه الأستاذ الصديق عبدالرحمن.. -متعه الله بالصحة والعافية-، والأستاذ سليمان الذي سبقنا إلى مضاجع الراحلين -رحمه الله- وكان الأستاذ عبدالعزيز ونُخبة من زملائه بكلية الشريعة بمكة المكرمة يحضرون لمشاركتنا في النادي الأدبي لطلاب الدار الذي يقام في أواخر كل أسبوع في غالب الأحوال، ومن ذلك الوقت قويت أواصر المعرفة به، ولنا معه ذكريات جميلة يطول البسط في ذكرها.. وكنت إذا حضرت في مواسم الصيف بالطائف يؤكد عليّ أن أسكن عنده بجانب قصره الرحب، وصدره الأرحب أنا وشقيقه عبدالرحمن، وكان يأخذنا بسيارته في أوقات الأصال وأطراف النهار فنقوم بجولة في جوانب المدينة وبعض الشعاب والأودية مُروراً ببعض الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، فنمتع نواظرنا من تلك المشاهد التي تبهج النفوس بهوائها الطلق، وقد يهيجنا سماع شدو البلابل ونوح الحمائم على ما فيه من إثارة الشجن والوجد أحياناً، فإنه يؤنس الأسماع ويخفف عنا من وحشة الاغتراب كما يقول الشاعر مترنماً:
ألا يا حمام الأيك مالك باكيا
أفارقت خِلاً أم جفاك حبيب
تُذكرني ليلى على بعد دارها
وليلى خَلوب للرجال طروب
كما نتذكر الرحلة القصيرة الجماعية معه ومع بعض أبناء عمه إلى إحدى مدن الخليج في أوائل الثمانينيات، وما تخللها من بعض الطرائف والفكاهات، وخاصة مع الصديق صالح العبدان -رحمه الله- وقد بتنا ليلة داخل أحد المساجد في هاتيك الديار لعدم توفر غرف شاغرة في الفنادق لكثرة الزوار، فأحضر لنا صاحب الفندق المجاور لذاك المسجد بعض الفرش وبعض الطُّراحات وأخذ منا مبلغاً زهيداً مقابل أجرة الفرش فقط..، وفوق رؤوسنا مراوح سقفيه (تقرقع) وغير مريحة التهوية! وصرنا في تلك الليلة في حالة لا نحسد عليها!.. وتعتبر تلك الرحلة من الطرائف وغرائب الأسفار، وغير تلك المناسبات والرحلات، ومنها صحبتهما إلى منطقة القصيم حيث كان والدهم فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العبدان قاضياً بمدينة عنيزة -آنذاك رحمه الله- فقمنا بجولة على كثير من المدن هناك، وكانت رحلة جميلة جداً، وبعد ذلك وقبل ختام هذه الكلمة الوجيزة عن سيرة الشيخ الراحل عبدالعزيز أتصور حال شقيقة عبدالرحمن الملاصق له في معظم أوقاته وأيام حياته وإن بعدت المسافة بينهما أحياناً.. حينما يخلو بنفسه ويأذن لمحاجر عينيه أن تفرغ ما بداخلهما من دمعات حرى يردد في خاطره معنى هذا البيت بكل تفجع وتحسر:
بلى إن هذا الدهر فرق بيننا
وأي جميع لا يفرقه الدهر
فالذكريات مع الأستاذ الفاضل عبدالعزيز -رحمه الله- متعددة المواقع والمجال الآن لا يسمح لنا خشية الإطالة على القراء، والعزاء في ذلك كله أنه ترك أثراً طيباً وذكراً حسناً، وخلف ذرية صالحة «بنين وبنات» -تغمده المولى بواسع رحمته- وألهم ذويه وإخوته وأخواته وأبناءه وبناته وعقيلته (أم فهد)، وجميع محبيه الصبر والسلوان.