* تقوم المعلّمة «هيلاري سوانك» في فيلم «كتّاب الحرية» بإهداء طلابها - وهم من الأقليات المهمّشة في المجتمع الأمريكي - نسخًا من كتاب «يوميات آن فرانك»، الفتاة اليهودية التي صارت أيقونة «لضحايا الهولوكوست»، كما أنّها صارت أيقونة للأمل ومواجهة الحياة.
* على الرغم من التشكيك الذي طال صحة نسبة اليوميات إلى آن فرانك، الفتاة ذات الاثني عشر ربيعاً التي اضطرت للاختباء مع عائلتها اليهودية بعد وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا مدة عامين، إلى أن وشى بهم أحدهم، واعتقلتهم السلطات فماتت هي وأختها بالتيفوس، إلى الحد الذي جعل بعضهم يشكك أساسًا في وجود فتاة بهذا الاسم، على الرغم من ذلك كله استمرت دور النشر بطباعتها عامًا بعد عامٍ.
* كان صغرُ سنّ آن إحدى النقاطِ التي جعلت بعض قراءِ يومياتها يشكّون في أن تكون هي الكاتبة؛ إذ كانت تناقش صديقتها الافتراضية، التي أطلقت عليها اسم كيتي، في كثيرٍ من أمور الحياة بشيءٍ من الفلسفة، مما قد لا يتهيّأ لفتاة في مثل سنها، وتمر بالظرف ذاته الذي عاشته آن في «البيت الخلفي» - وهو عنوان اليوميات في الترجمة الفرنسية - أو الملحقة التي اختبأت فيها.
* لكن لمَ قد يكون عمرها وعزلتها سببَيْن لاتهامها؟ كثيرٌ من الأسماء التي خلدها تاريخ الأدب عاشت العزلة، سواء أكانت تلك العزلة اختيارية «كعزلة رهين المحبسين أو المحابس الثلاثة، وإميلي ديكنسون التي شرح أرشيبالد مكليش بأن عزلتها لم تكن هروبًا من الحياة، بل إن الأمر على عكس ذلك؛ كان اعتزالها مغامرة إلى قلب الحياة التي اختارت أن تكتشفها وتروّض مجهولها»، أم عزلة إجبارية تفرضها ظروفٌ سياسية «مثل عزلة آن وكل المعتقلين والتوحيدي، أو حتى عزلة النابغة الذبياني وخوفه من أن يصيرَ بوعيد النعمان كالبعير المطلي بالقار»، أو جغرافية «كعزلة حي بن يقظان وبُعده عن البشر»، أو حتى اجتماعية «كما حدث لطلاب سوانك في الفيلم المذكور سابقًا»!
* في العزلة يتهيأ للمرء أن ينكفئ على ذاته، لكنه لا ينطفئ. يسمع حديثه الداخلي، دعوة الكريّات لبعضها البعض؛ كي تسعفَ هذا العضو أو ذاك بمزيدٍ من الأكسجين. حسنٌ، لست متأثرة كثيرًا بالمسلسل الكارتوني «هذه هي الحياة» بالرغم من أنّي لا أستطيع محو منظر العضلات عند حركة البطل وهي تقول: «هيلا هوب»! لكن ذلك حقيقي من ناحية ما، حين تكون أنت ونفسك ولا ثالثَ بشريًا بينكما، تستطيع حينها أن تحلّ العقد «بعيدًا عن نفاثاتها»!
* برفقة الذات يمكن للمرء أن يحلِّق في فقاعة، أو على ورقة شجرٍ، أو على بساطٍ من الريح أو الريش، دون أن يعني ذلك أن تكونَ رحلة مرفهة بالضرورة، يتخفّفُ فيها من سقطِ المتاع حين يغربل تفاصيله من الشوائب، يـُسقط الزؤانَ ولا يبقي إلا البُر، وتتحقق مقولة درويش في أنّ العزلة مصفاة لا مرآةٌ. إذن ليست «آن» وهمًا؛ إذ يمكن للعزلة أن تسبغَ علينا حكمة الناسك وروحانية المتصوف وابتكار العالـِم، ولا داعي هنا لاستحضار قصص أديسون وآينشتاين ومندل ونيوتن وغيرهم، ولو تهيّأ للأطفال المعتقلين في السجون هنا وهناك كتابة يومياتِهم فلن تكونَ إلا إثباتًا لفضل العزلة في منحهم ما اكتسبوه من خبراتٍ، رغم أنها قد تأخذ كثيرًا من سني طفولتهم.
* فقاعة أخيرةٌ: «العزلة هي ما يشبه خلوّك من خارجك، وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلّة نجاة..!» محمود درويش.