يظنّ كثير من النّاس والكتّاب على حدٍّ سواء أنّ الذّهاب نحو القضايا السّياسية السّاخنة، وتناولها في الأعمال الإبداعية بصيغتها الشعاراتية المباشرة، هو الأسلوب الأمثل في عمل المبدع..
..كلّ ذلك انسجاماً من مقولة الالتزام المعروفة في عالَم الأدب. بالمقابل تعتقد فئة أخرى أنّ التّخلّص من هذه القضايا، وإقامة القطيعة النهائية مع السياسة هو ممّا يخدم الكتابة، ويطوّر أدواتها، ويدفع بها نحو قمم الإبداع.
إذا ما دقّقنا النّظر في الرّأيين السّابقين فإنّنا سنخرج بالانطباع الذي يقول إنّهما وجهان لعملة واحدة. أي إنّهما في المحصّلة النّهائيّة ليسا سوى رأي واحد، فكلّ منهما يعتمد على استحضار قضايا من نوع معيّن في الكتابة دون غيرها، وإن اختلفت هذه القضايا، وبذلك فإنّ الرّأيين السّابقين ينطلقان من التّصوّر نفسه الذي يعطي الأولوية في العملية الإبداعية للموضوع، وهو تصوّر مغلوط، ويسبّب البلبلة والضّعف للنّصوص.
لا يوجد هناك قضايا، أو مواضيع تصلح للكتابة دون غيرها، فكلّ قضية في الدنيا يمكن أن نطول منها الشعر، أو نصنع منها لوحة سرديّة مدهشة، فقد تكون هذه القضية قضية كبرى، وقد تكون قضية صُغرى ولا يعيرها الشّخص انتباهاً يُذكَر. الفيصل هنا وهناك يعود إلى الرّوح الخلاقة لدى المبدع التي تستطيع تحويل هذه القضيّة أو تلك إلى نصوص ترعش بالأنفاس، ترفرف وتطير وتحلّق، نصوص تخترق القارئ، وتحمله على أمواج من اللذاذة والإمتاع. عن طريق الموهبة تتحوّل هذه القضايا من إطارها الجامد الصّلب المتداوَل، إلى نسغ ونسيج حيّ.
وردة الواقع هي بالضّرورة غير وردة الكتابة، فوردة الواقع لها خصائصها المحدّدة المعروفة، أمّا وردة الكتابة فهي وردة غامضة مقتطفة من حديقة الحلم. إنّها (وردة النّدم) كما يصفها الشاعر شوقي بزيع في أحد دواوينه، وهي ربّما تكون وردة وحشيّة أو وردة تسبب الرعب، أو (وردة الهذيان) كما سمّاها الشاعر عثمان حسن.
القضيّة هنا هي بمثابة ذريعة للدّخول في النّص، والإطلالة على تلك الأرض الملتبسة، التي تغوي من يطأها للتّورّط والضّلال في شعابها.
لقد أوقعتنا الإيدلوجيا من قبل في مجموعة من التّنظيرات المحنّطة، من مثل الكتابة هي انعكاس للواقع. والآن لو اعتقدنا بصحّة هذه النظرة، وقمنا بتطبيقها في عالم الكتابة فعلى أي صورة ستكون النصوص التي سنكتبها؟ لا شكّ أنّها ستكون نصوصاً متهافتة، دون روح، وتسبب الكآبة والضّجر، مثلها في ذلك مثل الكتابة التي تنشد التّغريب والقطيعة مع الواقع، فمثل هذه الكتابة أيضاً تتستّر بستار الغموض فيما هي مفرَغة ومتداعية من الدّاخل.
الأهمّ من كلّ هذا وذاك هو الإخلاص في الكتابة، وتطويرها، والانعطاف بها نحو طرق ومفازات غير معروفة من قبل، وفتحها على آخرها لاستيعاب الجماليّات الجديدة، ليس على صعيد الإطار الوطني والقومي فقط، وإنّما الإنساني الشّامل أيضاً، فهناك شعوب صغيرة، وبلدان لا نكاد نراها على الخارطة، ولكنّها تتمتّع بوجود ثراء على مستوى الشعر أو الرّواية.
على المبدع أن ينتبه إلى تجربته، وينخرط في حمأَة الإبداع العظيمة، ولا يأبه لكل تلك الأصوات الزاعقة التي تدعوه إلى الانضباط، ومراعاة تقاليد القطيع. على المبدع أن يكون سيّد نفسه، عليه أن يكون نافراً ومتمرّداً على المستويين الفردي والجماعي، فليس المبدع كاتب عرائض، ولا هو من حاملي الأبواق. وإذا انتفى هذا الشّرط فسدت كتابته، وتحوّلت إلى ثغاء فارغ، إنّ ما يمكن للمبدع أن يحقّقه لوطنه لَيَتأتّى فقط عن طريق هذه الإضافة الحضارية الجديدة التي ينجزها من خلال الكتابة، وليس عن أيّ طريق آخر.