يُحكى عن أسطورة أوربية تتحدث عن غلام يدعى بينيكو، لا يستطيع أن يكذب أو يقول زوراً، والسبب أنه يملك أنفاً عجيباً يكبر كلما قال كذباً ويصغر إذا قال صدقاً. والأنف بين سائر أعضاء الوجه جميعاً يحظى بعناية فائقة وباهتمام إعلامي ودعائي لا يكون لأي عضوٍ آخر سوى منافسة العين إلا اختلافه عنها إذ أنه مصدر الفرح والتعاسة مما جعله يكون مركز الجمال والقبح ما لم يتحلّ المرء بالقناعة..
.. لا بل تعدى ذلك كله بأن يكون محور العز والذل، فله زمام الأمر كله وعليه يُكبُّ الناس في نار جهنم بسبب حصائد ألسنتهم، وفي الحديث الشريف (رغم أنف امرئ .... إلى آخر الحديث). وإذا مات الإنسان على فراشه قالوا حتف أنفه، كما يروى عن خالد بن الوليد حينما حضرته الوفاة قال (وها أنا أموت حتف أنفي...).
ولكن لماذا الأنف؟!
قال الجوهري في الصحاح: أنف كل شيء أوله، ولأن كل ما يحدث للإنسان من شر أو خير كان عليهم أن يسمّوا عضواً ينوب عنه في الملمات اختصاراً، فكان الأنف مجازاً أقرب الأعضاء وأولها، فأطلقوا على الجزء وهم يريدون الكل كنايةً عنه شخصياً في العزة والذل وفي الكرامة والمهانة، فإنّ بني أنف الناقة عُيّروا زمناً بهذا الاسم فكانوا يتجاوزونه إذا قيل لأحدهم انتسب حتى مدحهم الحطيئة:
هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوّي بأنف الناقةِ الذنبا
فإذا قيل لأحدهم انتسب زمّ شفتيه ورفع رأسه وعقيرته: من بني أنف الناقة!! مفتخراً متفاخراً، ولم يجد حسان بن ثابت أفضل من الأنف حين أراد أن يمدح الغساسنة ويصفهم بالرفعة والعلو والجمال قال:
بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابهم
شُمُّ الأنوفِ من الطرازِ الأول
فالحطيئة بدَّل حالهم من الذل إلى العز بسبب جهلهم زمناً عن مكانة الأنف علماً أن بيت حسّان كان قبل بيتهم، وقيل أن سبب جدع أنف أبي الهول إنما ليبرهن أنه صنم ذليل! لمعرفته أن الأنف مصدر العز والذل، وإذا ذُكرتْ الأعضاء لابد أن يكون مذكوراً فثلاثة عيون إحسان عبدالقدوس كان معهم الأنف شاهداً وحاضراً، ولم يجعل غيره لقوة مكانته وصدارته عمن سواه، ولأنه مذكر وسط إناث. وعندما أراد نيقولاي غوغول الروائي الروسي أن يشير إلى الحالة البشرية وما يعتريها من انفصال عن بعضها البعض، أنشأ مسرحيته الكوميدية الرمزية الأنف، وكيف أنّ كوفاليوف قد تفاجأ ذات صباح بانفصال أنفه عن وجهه وقد ستره عن الناس لقبح منظره، ولو كان عضواً آخر لما كان له ذلك الأثر، وحتى فوز صورة بيبي عائشة الأفغانية بأفضل صورة في العالم والتي قطع زوجها أنفها لخروجها من المنزل إنما كان بسبب الأنف وقيمته الجمالية بالنسبة للإنسان وكيف شوه وجهها؟ على قطعهِ للأذنيين إلا إنهما مستوران بكثافة الشعر فأمرهما أسهل!! وكذلك زوجة هدية بن الخشرم حينما خاف أن يكون حبه لغيره بعد إعدامه فما كان منها إلا أن استلّت سكيناً وبرهنت له على دوام حبه فجدعت أنفها لعلمها أنه مصدر الجمال فلن يرغب بها أحد وهي مجدوعة الأنف، وقيل لولا الأذواق لبارت السلع!! وسلعة الوجه الأنف فقد تباين الناس واختلفوا بتقديراتهم في جماله وقبحه كلٌ على شاكلته، فالعيون مثلاً هي مصدر جمال وليست قبحاً حتى وإن جحظت كثيراً أو كانت كحبة الشعير إن لم يسعفها الأنف فقد يُعيّر بأنفه وليس بعينه، ولذلك يُقال للرجل أقنى الأنف وللمرأة مارنة الأنف، قال ابن مقبل:
كأنها مارنُ العرنين فيفضل
من الظباء عليه الودع منتظم
وكما له ذلك فقد يودي الأنف للمهالك كما حدث لابن المقفع حين كان يسخر من أنف سفيان عامل المنصور، إذ كان له أنف كبير فإذا رآه ابن المقفع قال: السلام عليكما!! يريد سفيان وأنفه، فجرى هلاكه على يديه بسبب ذلك في قصة المنصور ووثيقة أمان عمه. وللتندر نصيب من الأنف فهناك متّسع من التعبير والتشبيه الكوميدي، فإن ابن الرومي قد ضاق ذرعاً ببخيل اسمه عيسى فقال:
يقتّر عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالدٍ
فلو يستطيع لتقتيره
تنفّس من منخرٍ واحدٍ
وكثيرٌ هي حكايات السخرية والتندر من الأنف في الأدب العربي والغربي لحساسيته وأهميته بالنسبة للمرء قديماً وحديثاً، فعمليات التجميل أضحت منتشرة وسهلة لمن أراد أن يكون أقنى الأنف ولمن أرادت أن تكون مارنة، ولو كان ذلك في زمان بعيد لكان سفيان أول زبائن صالونات التجميل ولم يترك ابن المقفع وغيره يعبث به.