ونحن على أعتاب أيامٍ مباركةٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله مما سواهما يجدر بنا أن نستقبلها بصلاح تلك المضغة التي هي سبب صلاح الجسد واستقامته، ألا وهي (القلب) موضع نظر المولى سبحانه، فهو عز وجل لا ينظر إلى صورنا وأموالنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، ولن تصلح القلوب وتصفو إلا إذا عمَّها العفو وكساها التسامح.. إن قمة السعادة تكمن في تلك القلوب النقية الطاهرة، التي لا تعرف من الحقد إلا اسمه، ولا تدرك من الكُره إلا حروفه، ألا ما أسعد الرجل المتسامح وما أطيب قلبه وما أهنأ عيشه، إنك عندما تصفح عن الآخرين فأنت في الواقع تصفح عن نفسك وتتسامح مع ذاتك وتغسل قلبك من لوثات الضغائن وأوساخ الأحقاد، وحينها فقط ستشعر بأن للراحة طعماً وأن للسكينة معنى، وما أصدق قول الشاعر:
لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ
أرحتُ نفسي من همِّ العداواتِ
حاول اليوم أن تُصدر عفواً عاماً عن كل من أساء إليك وستجد في نهاية المطاف بأنك أنت الرابح الأكبر والفائز الأول والمنتصر في الميدان، وكيف لا يتم لك ذلك وأنت قد أطعت أمر مولاك القائل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} لا تسمح أن يتحول قلبك الطاهر إلى حيَّات للضغينة وعقارب للكراهية؛ لأنها حينئذٍ لن تلدغ إلا قلبك ولن تلسع إلاَّ فؤادك، جرِّب أن تملأ قلبك بالمحبة وأن تمرِّن عضلات قلبك على التسامح، ولتحذر تمام الحذر من الرغبة في التشفي أو السعي للانتقام، لأنك بذلك ستسير وراء شيطانك، وستنساق خلف نفسك الأمارة بالسوء، وهما لن يقودانك إلا إلى الكدر والنكد وسوء المصير.
إن الحياة جميلة متى ما نسينا الماضي الأليم، وتخلينا عن استحضار الذكريات المريرة، وبدأنا عهداً جديداً من الود والإخاء والمحبة، إننا إن لم نفعل ذلك فسنعيش طوال عمرنا أسرى للتفكير السلبي القاتل، الذي يدفعنا دوماً إلى الانتقام والمكيدة، وحينها ستعمى أبصارنا عن رؤية كل ما هو جميل وممتع في الحياة، لأن عدسات الكراهية لا ترى من الألوان إلا القاتم القبيح.
عوِّد نفسك على الصفح مهما كان حجم الخطأ، واجتهد في مقابلة الإساءة بالإحسان، ولا تستمع لناصحٍ يقول إن في ذلك ذلة ومهانة، بل استمع لصوت الحق القائل {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولتقل كما قال الأول:
سأُلزم نفسي الصفحَ عن كلِّ مذنبٍ
وأن كثُرتْ منه عليَّ الجرائمُ
سامح الذين أخطأوا في حقك، واصفح عن الذين ظلموك، وتذكَّر أن النفوس الكبيرة فقط هي التي تعرف كيف تصفح وتسامح، امدد يدك إلى الآخر بصدق، ودع قلبك يصافحه بود، وانسوا أو تناسوا ما حصل بينكم من أخطاء أو إساءات، افعلوا ذلك إرضاءً لله، ولا تجعلوا لحظوظ الدنيا منه نصيب، وأربأ بأنفسكم من تمثيل دور التسامح بُغية المجاملة والمداهنة، بل أصدقوا في النوايا وأحسنوا المقاصد؛ لتنعم قلوبكم بالسلام الداخلي، ويشرق منها ذلك الجانب الذي اسودَّ من الغل الدفين، إنها دعوة من القلب للتصافي، دعوة تصرف وجوهنا عن الماضي، وتأخذنا إلى المستقبل، وتُعيد لنا أجمل معاني الحب والإخاء، لا يهم هنا من أخطأ، ولا من الذي يجب عليه الاعتذار، إنما الأهم أن نهتف سوياً بقلب مخلص ونقول {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} إنها دعوة إلى ما أمر الله به من (الصفح الجميل) والذي جاء في تفسيره أنه الرضى من غير عتاب، فهل بمقدورنا أن نصل إلى هذه القمة الأخلاقية الراقية، فنعفو ونسمح دون أن نعاتب ونجرح؟.. إنني لأرجو هذا لي ولكل إخوتي، وليس ذلك على الله بعزيز.