لا أعلم علمَ اليقين مصْدراً يؤسس المعنى الديني لعبارة (الدين المعاملة) التي يرد ذكرها تكراراً عبر مداولات الناس، مسموعةً ومقروءة، لكنها تبقى في تقديري المتواضع (مقولة) قيّمةَ المعنىَ، نبيلةَ القصد، عميقةَ المدلول، ففيها إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى شرع للناس الدينَ لينظّم علاقتِهم بخالقهم، ويؤَسسَ لأخلاقياتِ تعاملهم مع أقرانهم من الخلق، وأن الالتزامَ بالدَّين الحنيف لا يقتصر على العبادات بل يمتدُّ إلى نسيج المعاملات والتعاملات بين البشر، مما يوجد ائتلافاً سمحاً بين قواعد الدين وثوابت التعامل الحياتي السوي بين الناس، وما تفرزُه آليةُ الحياة الحديثة ونسيجها المتعدد الأطراف والأشكال من مواقفَ وتطبيقاتٍ ومتغيراتٍ وعلاقات متشابكة، ثنائية وجماعية، يُعتبرُ (الإحسان) فيها مكَملاً لمعادلة التوازن المثالي بين العبادة والحياة.
) وفي هذا السياق الديني والسلوكي، تبرز منظومةٌ من التناقضات والملابسات في وجدان الإنسان المسلم وسلوكياته وكيفيات تَعاملِه مع الآخر، فقد يحرصُ على تطبيق شِقّ العبادات، فلا يتأخّر عن أدائها في أوقاتها بشروطها وآدابها، لكنه قد يخفق في تطبيق قواعد وضوابط وآداب التعامل مع البشر من منظور ديني وأخلاقي، فتراه يكذب ويغش ويرشو، وقد يختلس أو يزور أو يسرق خدمةً لمسوغات ذاتية لا علاقة لها بمعادلة الحق والفضيلة!
) وأمام هذا كله، يأسرني الغيظ أحياناً وأنا أستعرض فـي خاطري نماذج من المواقف السلوكيّة لبعض المسلمين، مرةً تحاصرني غلبةُ الإحساس بما يشبه هزيمةَ الغريق يأساً من فرص النجاة، وأخرى أتمرَّد على الاستسلام ليأسي، وتنتفض في نفسي نشوةُ الأمل متَّكئاً إلى الإيمان بالله ثم الثقة بالناس!
) لماذا الغيظُ، يسألني سائلٌ، فأقول:
1) يغيظني من ينسى أو يتناسى أن ديننا الحنيف ليس (شعائر) فحسب، تربط العبد بربه، ولكنه إلى جانب ذلك (وصفة) إلهية تقنّن السلوك السويَّ والتعامل النبيل بين البشر، صغيرهم وكبيرهم، لا فَضْلَ لأحد منهم على آخر إلاّ بالتقوى، والتقوى مقرُّها القلب، وصراطُها الجوارحُ، سمعاً وبصراً ولسَاناً ويداً!
2) يغيظني من يشوّه المثلَ السامية التي تقنن السلوك السويَّ بين البشر، فينعتَ كرمَ الحلم بالجبن، ونقاءَ القلب بالضعف، ونزاهةَ اللسان بالبَله!
3) يغيظني من (يزوّر) معاييرَ التنافس المشروع بين البشر طلباً للعيش الكريم، فيُكْبرَ المحتال، ويصْغرَ النزيه، ويسفّهَ المجتهدَ، ويُبعدَ النقيّ، ويُدني الملوث ضميراً ويداً ولساناً!
4) يغيظني مَنْ يغتالُ في الآخر الكرامة والموهبة وشجاعة الرأي، لمجرد اختلافه معه أو عنه رأياً أو ظناً، ثم يمضي (يشرَّح) هويته في المجالس أمام الرفيع والوضيع، فيصمه بما هو منه براء، لأنه اختلف معه في رأي لم يلزمْه باتباعه، في حين أن كليهما مجتهدان، حُسبَةً وظناً!
5) يغيظني من يمنح نفسه سلطة النقد العشوائي للناس، بلا دليل ولا حجة، فيصمهم بالريب والعيب، متّكئاً في ذلك على (رصيد) من فراغ العقل والوجدان ثقافةً وإحساساً، ثم يُغرق الأسماع (بموشحات) من الوصفات المثالية الخارقة، للتعامل مع من وما رأى فيه عيباً وريباً! ويزدادُ الغيظُ.. ويعظمُ الأسى إذا كان الناقد صاحبَ ولاية على شأن من شؤون الناس، وكان ممن إذا ذُكِرُوا في المجلس، لم يُطرِ له أحدٌ سيرة، أو يذكره بخير!.
وبعد..
) فإن إحساسي بالغيظ لم ولن يصادرْ مني فضيلةَ التفاؤُل أو يُكرهني على (تعميم) ما أنكر من قول أو عمل.. فالناس ليسُوا سواء ! كلُّهم خطَّاؤون، وخيرُهم التَّوابُون، وسأبقى بإذن الله متَفائِلاً بتغيُّر حالِ الناس صَوبَ الأفضل سلوكاً وتعاملاً، رغم مدَادِ الغيظ الذي رُسمِتْ به هذه الحروف!.