الجزيرة - فيصل العواجي:
شدَّد الأستاذ عبدالرحمن المشيقح على ضرورة مواكبة أنظمة التعليم لتحديات المستقبل, داعيًا إلى الاهتمام بالطالب والمعلم في آنٍ واحد والنظر إلى حاجاتهما, وتجنيب الشباب كل الصدمات والمفاجآت المستقبلية التي تنشأ نتيجة عدم المواءمة والاستعداد لدخولهم لُجَّة المستقبل وهم على دراية بالموازنة والقياس ومدى حاجات المجتمع, مشيرًا إلى أنَّ تحديد مستقبل الوطن وحضارته مرهونٌ بالتعليم وواقعه ونظرة الوطن المستقبلية وخططه التطويرية له. جاء ذلك في محاضرةٍ بعنوان «قراءة في تعليم المستقبل» أُلقيت ضمن أنشطة مركز حمد الجاسر الثقافي في «دارة العرب»، وأدارها سعادة الدكتور عبدالعزيز العمر.
وأشار المُحاضر إلى أنَّ المعلم يُعَد محور الارتكاز في إدارة العملية التعليمية المعاصرة وتنفيذها برمَّتها، فهو -بلا جدال أو منافسة- الجهاز التنفيذي الرئيس لخطَّة التعليم, والمكمِّل والمفسِّر لأهدافها وبرامجها, لذا ينبغي الاهتمام بتدريب المعلم تدريبًا مستمرًّا أثناء الخدمة, وأن يطَّلع على مستجدات العلوم والمعارف, وإلاَّ أصبح محاصَرًا ومهدَّدًا بمناقشة طلابه وتساؤلاتهم عن أفكارٍ ومعلوماتٍ اكتسبوها من مصادر المعرفة المتشعِّبة.
كما أوضح أنَّ لشباب الغد تطلعاتٍ وهمومًا تختلف في طبيعتها وحدَّتها عن تطلعات الجيل القائم، لذا لابد من تدريب المعلم على تفهُّم الصورة المستقبلية وفهم لغتها ليمكنه الولوج إلى عالمهم ومراقبته لمسارهم عن بُعد, والتدخل غير المباشر عند الحاجة. فانعزال المعلم عن واقع الشباب وعدم تفهُّم ظروفهم قد يكون أحد أسباب تأخُّر التربية المعاصرة عن تحقيق الأهداف المرسومة لها.
وأشار إلى أنَّ المهارات المأمولة في تأهيل الطالب في مدرسة المستقبل تكمن في إجادة التعامل مع علوم المستقبل المتجدِّدة، والقدرة على امتلاك المهارات من أوعيتها المختلفة والتعلُّم الذاتي، والاختيار الحر لمِهَن المستقبل المبنيَّة على رغبته، وامتلاكه لمهارات الاتصال والاستفادة من ثقافة الآخر، وانخراطه في الواقع بشكلٍ إيجابي، وحفاظه على هويته وعقيدته، ومواكبته لمتطلبات سوق العمل.
وأشار إلى أن التكنولوجيا منحت المجتمعات نقلة نوعية وستسهم في نهضة حضارية سريعة إذا أحسنَّا استخدامها, وطريق المعلومات السريع سوف يساعد على رفع المقاييس التعليمية لكلِّ فرد في الأجيال القادمة، وسوف يتيح هذا الطريق ظهور طرائق جديدة للتدريس ومجالات أوسع بكثير للاختيار, وسوف يمثِّل التعلم باستخدام الحاسوب نقطة الانطلاق نحو التعلم المستمر من الحاسوب, وهي كفيلة بنقل المجتمع إلى مستوى متقدم ومواكبة التطور.
وتحدَّث عن مدى تفاعُل التعليم وإسهامه في قضايا الواقع واهتمامه بنشر الدلالات الصحيحة، وأنَّ التطلع للغد المرتَقَب يتم بأدوات الماضي ونتاج الحاضر وظروفه، وبمنهج علمي محكوم بأسس واستنتاجات موضوعية، مشيرًا إلى أنَّ جميع الدراسات والنظريات والتنبُّؤات التي تُطرح عن الأوضاع المستقبلية في مختلف المجالات -وإن كُتب لها النجاح والتطبيق- لا تحمل سمة الديمومة بل هي محدودة البقاء ومرتبطة بالخطة المجازة، وقد تظهر في المستقبل أحداث وأخطار مفاجئة لم يعرفها العالم من قبل ولم يحسب لها حسابًا في الاستقراء، تهدِّد الحياة وتنسف المشروع الاستشرافي, منشؤها التغيرات التي تكتنف حياة الإنسان، والأمثلة من الواقع عديدة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، والزمن الحاضر بخصائصه وحاجاته يؤكد ذلك, فالسباق المتسارع في امتلاك التقنية المتجددة يفرض على كل المجتمعات بمستوياتها ومقادير حاجاتها لإعداد الخطط والدراسات التي تمكِّنها من المشاركة في الإنتاج العالمي الآني والمستقبلي؛ ذلك أننا «نعيش في عالمٍ لا يرحم الضعفاء ولا يحترم الجبناء، عالم يتطور بالليل وينمو بالنهار، وتسعى فيه كل أمة جادة لتحقيق أهدافها من خلال السيطرة على الآخرين وفرض نفوذها وبسطه على العالمين». وعملية القياس والتقويم في بناء المنهج هي أيضًا لن تكون على صورتها المألوفة بسلبياتها وإيجابياتها، بل ستواكب بدورها موجة التطور والتغير الذي سيطرأ على عملية التعليم, وستظهر بثوب جديد، إذ ستتسع مهمتها تبعًا للأهداف المرسومة في بناء المنهج.
وأوضح أنَّ تقنيات التعليم في المستقبل ستشهد -بمشيئة الله- توظيفًا أوسع ودورًا أشمل في تنفيذ الدرس، إلى درجة أنَّ بعض المتخصصين يرون منافسة تلك التقنيات للمعلم وتهميشها لدوره الأساسي القائم الآن، وربما يكشف لنا المستقبل القادم عن أجهزة جديدة متطورة متخصصة بنقل المعرفة والمهارات المطلوبة وتعميقها في ذهن المتلقِّي، وقد تكون تلك الأجهزة زهيدة الثمن سهلة النقل والاستخدام، وترتبط بمراكز المعلومات مباشرةً عبر شبكات فضائية، وبذلك تسهُل ممارسة التعليم في أي موقع وفي أي وقت.
كما تحدَّث المُحاضر عن ضرورة النظر إلى حاجات المجتمع والطالب, إذ لكلٍّ عصرٍ سماته الخاصة به، تبرز أهميتها وتشتد الحاجة إليها وقت الطلب، ويُفترض في برامج التعليم أن تتناولها ضمن الأهداف وبرامج النشاط المرسوم. وسردَ أبرز الإشكالات التي تعوق المسار التعليمي؛ منها عدم القدرة على القضاء نهائيًّا على انتشار الأمية بمفهومها الشامل الواسع، كما ستواجه معظم الدول النامية مشكلة ضعف التخطيط التربوي نتيجة عدم الاستعداد المسبَق لذلك. والمشكلة الكبرى التي ستواجه المؤسسات التعليمية هي تلك المنافسة الحادة غير المتكافئة التي ستكون بينها وبين المؤسسات الثقافية الأخرى المتعددة والمتفنِّنة، ويعيش وقتنا الراهن حالة مصغَّرة من تلك المنافسة. ومن المشكلات الكبرى التي ستواجه نظام التعليم المستقبلي قضية الفراغ الذي سيعاني منه الجيل الجديد، نتيجة الفائض في الوقت ودخول العقول الإلكترونية المفكِّرة من الجيل الخامس (السوبركومبيوتر المفكِّر) للمعامل والمدارس، وقلة فرص العمل أمام الشباب، والفراغ الروحي نتيجة ذبول بعض القِيَم والمعتَقَدات لدى بعض الشعوب والذي نرصد جزءًا من معالمه وآثاره السلبية نتيجة الانفتاح الإعلامي الحر وتعاظُم الذاتية وطغيانها نتيجة سيادة النظرة المادية، وعدم تهيئة الدارس للتعامل مع المستجدات، وعدم القدرة على تفادي صدمات المستقبل المتوقَّعة من خلال التعامل الإيجابي مع كل جديد.
وشدَّد على ضرورة الاهتمام بالتخطيط والتطوير التربوي، وتشجيع البحوث والدراسات التربوية؛ فذلك أبرز عوامل التقدم وسر النجاح المنشود، بشرط عدم الوقوف عند محيط التوصيات والقرارات الجامدة التي لا تغادر قاعات الاجتماعات وأرشيف المؤتمرات، بل لابد من أن تسري تلك التوصيات في جسد الأنظمة التعليمية، فما دعت إليه الحاجة يُنفَّذ ويُضمَّن في المناهج، وما حالَ دون تضمينه مانعٌ منطقيٌّ مقبولٌ أُبعِد. مؤكدًا أنَّ رصد الواقع الحالي يُعَد من الضروريات التي ينطوي عليها رسم المستقبل وخطط بناء القوى البشرية.
وركَّز المُحاضر على أبرز مظاهر التعليم المستقبلي، وتحديد بعض الجوانب التأثيرية المرتبطة به, فالتعليم المستقبلي سيكون مفتوح الأهداف والغايات وتحت مظلة المعرفة الإنسانية, وتلك إشكالية تتطلَّب الاستعداد ورسم الحلول. وبتحقيق ذلك لن يكون مستوى التعليم المستقبلي في الدول واحدًا, بل سيظل التفاوت بينها حسب قدراتها واهتماماتها ومستوى الإنفاق على برامج التعليم فيها, على الرغم مما يطرحه البعض من آراء عن إمكانية اتحاد المستويات بين المجتمعات، كما سيستمر التفاوت أيضًا بين أفراد المجتمع الواحد بجميع فئاته، وستعمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية عملها في رسم التفاوت بين الأفراد، وبات مؤكَّدًا أن القِيَم والمُثُل والأخلاق هي أهم العناصر التي سيطولها أثر التغيير, وعملية الحفاظ على الجزء الأكبر من مكوِّناتها لا يتم إلا من خلال المشاركة الفعَّالة في صياغة برامج التعليم المفتوح، ومن خلال التوعية الإيجابية التي تتجاوز حدود العاطفة وتتَّكئ على تنمية الوعي والتدريب على الحوار وإبداء الرأي. وكلفة التعليم المستقبلي ونفقاته لن تقتصر على الجهات الرسمية المشرفة على التعليم وحدها, بل سيشارك في التمويل وتغطية النفقات كثيرٌ من المؤسسات الرسمية والخاصة، وستتحمَّل الأسر جزءًا من تكلفة تعليم أبنائها، ولن يكون حجم التكلفة مُثقِلاً عليها بسبب المنافسة الشديدة بين المؤسسات التعليمية، وبفضل المبتَكَرات العلمية وتطورها, وبخاصَّةٍ في الأقطار الغنية.
وفي الختام أكَّد أنَّ الاهتمام بالمعلم شرطٌ في رفع مستوى التعليم, وأُولى درجات الاهتمام تكون بالعمل على تعميق وسائل الانتماء, وانفتاح الإدارة العليا للتعليم على الميدان التنفيذي الواسع والمليء بالخبرات. وفي النهاية يجب أن نعي أنه لا كرامة ولا عزَّة ولا تفوُّق لأمتنا إلا بتمسُّكها بدينها الذي وُعدت بالتمكين إن التزمت به, لذا يجب أن يكون هو الوعاء والهدف والموجِّه للمسار.