روما - سهيلة طيبي:
يلجأ كثيرٌ من المهاجرين العرب الذين أثقلت الغربة كاهلهم جرّاء عسر الاندماج في المجتمع الإيطالي، إلى العديد من الحيل بحثاً عن لقمة العيش، وعن موضع يقي أجسامهم المنهكة من برد الشتاء اللاذع، فخيبة المهاجر الذي طالما تعلّق بالسراب تتعمَّق مع كل يوم جديد، حتى لتغدو غربة المهاجر يوماً متكرراً يتقلص منها شيئاً فشيئاً، بصيص الأمل الذي طالما حمله معه يوم مجيئه الأول إلى إيطاليا أرض النجاة، التي باتت مقبرة الأحلام الخادعة.. من خلال هذا الروبرتاج تناولنا العديد من العينات في صراعها اليومي مع سراب لا ينتهي.
السيد «م» جزائري يقيم رفقة أخويه في حي «شانتو شالي»، إحدى المناطق الشعبية في العاصمة روما.. جلب انتباهنا تردده على جامع الحي المذكور، الذي هو عبارة عن مغارة أرضية يأوي إليها المعذّبون في الأرض.. هناك التقينا الكثير من الشبّان العرب والأفارقة المسلمين العاطلين بشكل مزمن.. فقد أصبح الجامع مأوى لهم، يبثون فيه لوعاتهم لبعضهم البعض، قبل أن يكون بيتا يُعبَد فيه الله..
منهم من تقطعت به السبل بعد أن طال به لجوؤه الاجتماعي أو السياسي من بلده، فأصبح كهلاً واشتعل رأسه شيباً بعد أن فاته قطار الشباب وولَّى بدون رجعة، أيام كان يُمنِّي النفس بالزواج من رومية شقراء تنسيه عذابات بلاد العرب..
«م» الذي بات على أبواب الشيخوخة، يبلغ من العمر ستاً وخمسين سنة، أخبرنا أنه يرتاد الجامع باستمرار، ليس للصلاة والعبادة فقط، وإنما ليمكث هناك فيه، علّه يفوز بصدقة أكل يقدمها بعض المحسنين إلى المحرومين الذين تنكرت لهم الأيام.. لم يتمكن «م» من الحصول على شغل في إيطاليا منذ عقدين، عدا بعض الأيام المتناثرة التي لا تكفيه مؤونة.. يواصل اعترافه قائلاً: إن حسرته ليست فقط من صعوبة تعذر اندماجه في مجتمع لم يفقه نشاطه وحراكه، وإنما أيضاً لكونه بات مفتقداً للجرأة في مواجهته، وقد زاد من تعكير حاله خجله.. ويضيف أن ما يحزّ في نفسه أنه لم ير أمَّه منذ سنوات، ولا يستطيع السفر لضيق ذات اليد، ولم يخف «م» حسرته الكبيرة لفوات ركب تكوين أسرة فقد عاش أعزب مضطراً لا باختيار منه.
أما المهاجرة السيدة «ف» المغربية الأصل فقد روت لنا محنتها المغايرة، حيث اعتصم زوجها ببيت الله، ونسي أن له عائلة يعولها.. تذكر في حديثها أنها تذهب يومياً إلى السوق للتسوق من أجل اقتناء بعض الحاجات إلا أن زوجها يظل غائباً.. فهو لا يتعاطى أي عمل إلا التردد على المسجد، وفي بعض الأحيان قد يعتكف هناك هروباً من مستوجبات الأسرة والبيت وأولاده الستة، فتقول «ف» إن أولادها يفتقدون صورة الوالد.. فالزوج يدّعي أنه تصوّف وزهد في الدنيا، في حين أن الأولاد بطونهم فارغة وعقولهم شاردة.. توجز «ف» حكايتها بقولها: إنها لم تعد قادرة على تحمُّل المسؤولية، فمنذ قدومها إلى إيطاليا وهي تعاني من «زهد» زوجها في الحياة، بعد أن طلّق الدنيا وتزوج الآخرة عقب فقدان شغله في مطلع الأزمة الاقتصادية.. تلك بعض الوقائع التي نسوقها في تحقيقنا عن المرابطين في بيوت الله رغم أنوفهم.
ويضيف السيد «س»، وهو مهاجر في العقد الخامس من العمر: بسبب تواجدنا المستديم في الجامع أصبحنا نلقّب بحماة جامع «شانتو شالي».. مع الأسف لم نمتلك غير الاسم وأصبحت أخجل من طلبي المتكرر لإمام الجامع بالمكوث هناك إلى حين تسوية أوضاع أوراق الإقامة أنا وإخوتي.. ويتابع حديثه بأن مدة إقامته طالت بطول عجزه عن تحرره من هذا الكابوس الدائم.. فهو يعتمد في مصاريفه على شقيقته الكبرى التي توفر له بعض المال الذي تجنيه من العناية بالعجّز وكبار السن.. يتقاسم معها أجرها رغم أنها كما يذكر تعول ثلاثة أبناء.
وعبر جولتنا صادفنا الشاب «ع» وهو تونسي قدم إلى إيطاليا عقب الثورة، حيث يتواجد يومياً وبشكل دائم في محطة القطارات «تيبورتينا» في روما، أين يلتقي الكثير من المهاجرين العرب أو الأفارقة أو من أوروبا الشرقية.. يقول إنه حينما جاء في البداية لم يكن يملك شيئاً سوى جهاز «والكمان» وشريط لأغاني «الراي» تتغنى بمواضيع الغربة والهربة والحرقة.. يتذكر أيامه الخوالي فيقول: سعيت للهروب من تونس بأية طريقة لأجد نفسي حبيس الأوهام والحلم بالعودة إلى الوراء، ويضيف أنه يشعر في هذه المحطة بنوع من الراحة والعزاء لأن المحطة تعجّ بالأجانب وبكثير من «أولاد الحومة».
الشاب «ن» هو من تونس أيضاً، يقول إن ما يجبره للخروج من غرفته المظلمة سيجارة، أو قطعة «بيتزا» تتبرع له بها الإيطالية إيزابيلاّ العجوز.. فهي بدلاً من أن تلقي بقايا البيتزا في المزبلة تمنحه إياها في أعقاب يومها.. ويقول «ن» إنها لم تتقبل اسمه فاستبدلته له بـ»دينو التونيزينو»، أي دينو التونسي.
أما السيدة «د» الوافدة من المغرب فقد زعمت أنها من بين اللواتي اخترن أن يتحدّين عزلتهن.. تقول إنها لم ترض بحياتها هنا لكنها من نوع «مكره أخاك لا بطل»، لأنها لا تستطيع العودة إلى وطنها وتخجل.. وتضيف أنها وحيدة وتقنع بالذهاب إلى إحدى المدارس التابعة لأحد الجوامع في روما لتقوم بتدريس اللغة العربية.. فهي محبطة وتودّ العودة إلى المغرب، لكن طلاقها الثاني هنا في إيطاليا يصدّها، مع أنها تقيم في غرفة «أوكوباسيون»، أي في غرفة مهجورة، لا تدفع فيها الإيجار.
وأما السيدة «ن» الجزائرية فتقول متحسرة إن كل أحلامها قد ذهبت أدراج الرياح، لم تجن من إيطاليا إلا الشقاء والتعاسة، فقد كلفها مجيئها إلى هنا غالياً, وتذكر أنها قد فقدت ابنها الذي انتزعته منها المساعدة الاجتماعية بسبب ظروفها المعيشية المزرية.. فقد صادف أن تركت ابنها الصغير في العديد من المرات وحيداً في البيت.. فما كان من البلدية إلا أن أجبرتها على تسليمه لمؤسسة رعاية تابعة للدولة بالقوة.. وتضيف: زادت نقمتي على هذا البلد لأني مضطرة للبقاء فيه، فإن عدت إلى الجزائر لن يرحمني كلام الناس على السنوات التي ضيعتها في إيطاليا.. باتت مدمنة على التدخين، تجد فيه سلوى، وتداوم كل يوم ثلاثاء على الذهاب إلى الكنيسة لإحضار قفّة الأكل المجانية.
وأما «ب» الذي شُهر بـ»برهومة الدزيري» أي الجزائري، فقد أطال شعره وأصبح يعيش على ذكريات الماضي متسكعاً بين حانات روما. زعم أنه امتلك محلاً، في ماضي الأيام، كان فيه دخله محترماً وينعم برغد العيش وتربطه علاقات كثيرة بعلية القوم من العرب والطليان، إلا أن الأزمة الاقتصادية وكثرة الضرائب أنهكته، ولم يتمكن من تسديد ديونه للبنك مما أدى به إلى أن يفقد ثروته.. حتى باتت قصته تلك يرويها لكل من جالَسه وأصغى إليه، إلى أن أصبح حديث الكثير من المهاجرين العرب بقولهم: «هل أتاك حديث برهومة».
أما «ف» التونسي، فيروي أنه لما قدم إلى روما «حارقاً»، أي بشكل غير قانوني على قوارب الموت، كان قد باع شجيرات الزيتون التي يملكها في منطقة الساحل التونسي، ليخوض بثمنها مغامرة ركوب البحر.. وإذا به يجد نفسه في إيطاليا يمتهن مهنة التسول أمام المساجد بعد أن تقطعت به السبل.. «ف» في العقد السادس من العمر وأب لخمسة أولاد، أصر على المجيء بنفسه إلى إيطاليا اعتقاداً منه أنه أقدر من أبنائه وأن «المال يمشي والرجال تجيبه»، أي أن ثروته التي فرط فيها قادر على استعادتها.. يقول: حاولت التفتيش عن شغل فقُوبلت بالسخرية من طرف العديد قائلين: «ستنال منحتين للتقاعد بدل منحة واحدة لأنك من شيوخ أيام زمان» ويقول لن أنسى ما قاله لي أحد المهاجرين وأنا ألتمس صدقة أمام الجامع، بأن الصدقة حرام لي وبأني ممن لا تجوز لهم الصدقة، إذ يبدو أن حديث شجيرات الزيتونة المباركة التي فرطت فيها قد شاع بين الناس.
رغم كثرة المعذَّبين في إيطاليا من المهاجرين فما زالت بلاد العرب من خيرة شبابها تدفع وإيطاليا تبلع، ولكن كما يقول مثلنا العامي «يمشي الجافل ويأتي الغافل»، وتلك ضريبة المسافر الذي زاده الخيال.