لقد أوضحت نتائج كثير من الدراسات أن التقاعد يؤثِّر على التوافق الاجتماعي للمسنين، ما لم يستطيعوا تعويض فقدان العمل بأنشطة متنوِّعة يمكن أن تساعدهم على قضاء وقت الفراغ وإشباع حاجاتهم وتحقيق ذاتهم، فالعزلة بالنسبة للمسنين تجعلهم أقل قدرةً على التكيُّف مع البيئة الاجتماعية، أما العمل فيساعدهم على حل الكثير من مشكلاتهم وإعطائهم الأهمية والمكانة الاجتماعية.
وللأسف، فإن نسبة من المسنين، وإن كانت قليلة تعتمد على نفسها مادياً والغالبية العظمى تجد صعوبة في توفير الأموال الكافية للعيش الكريم.
إن قلة الموارد المالية تجعل المسن يعيش في ظروف حياتية صعبة، حيث لا يستطيع تحمّل تكاليف السكن في بيت مريح ومناسب تتوافر فيه الضروريات أو أن يتغذى بشكل مناسب وأن يدفع فواتيره الشهرية بسهولة.
وقد أثبتت الدراسات وفي جميع المجتمعات أن المنزل والمجتمع الذي عاش فيه المسن هو المكان الأنسب له وينبغي أن تتضافر جميع الجهود العائلية والرسمية والتطوعية لإبقاء كبار السن أطول فترةً ممكنة في منازلهم وفي المجتمع معتمدين على أنفسهم أو بدرجات متفاوتة من المساعدة من قِبل الجهات المختلفة.
وبَعْدُ، لنا أن نتساءل عن ماهية دور كبار السن في البرامج التنموية في المجتمع؟! وهل يمكن الاستفادة من القدرات والإمكانيات العقلية والحسية المحدودة للمسن في إنجاز البرامج التنموية؟!
وهناك الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تتولَّد حول قضايا ومشكلات كبار السن في المجتمع وعن مدى وحجم وفعالية دورهم في الحياة وهم في أسوأ حالات خريف العمر واحتمالاته.
إن العديد من الدراسات تشير إلى أن مشكلات كبار السن لا تتمثَّل فقط في المعاناة الجسمية نتيجة لإصابتهم بأمراض الشيخوخة أو بعض الأمراض المزمنة، بل إنها تتعدى ذلك إلى مشاعر البؤس والشقاء التي تنتج عند إحساسهم بأنهم أصبحوا بلا فائدة في المجتمع وإلى مشاعر الوحدة واليأس التي تنتابهم.
فأصبح من الضروري التفكير في أن مشكلة كبار السن ليست فقط في ضرورة توفير المسكن والملبس والمأكل باعتبارها حاجات مادية ضرورية، فضلاً عن الرعاية الطبية، بل إن سياسات الرعاية لكبار السن ينبغي أن تمتد الى إشراك مَنْ له القدرة من كبار السن في البرامج التنموية التي تتناسب مع قدراتهم العقلية والجسمية، لإشعارهم بأهمية الدور الذي يمكن أن يقوموا به، حتى يعطيهم الأمل والحياة في المجتمع، ويتوافر لهم الرضا والاستقرار النفسي. ومن أمثلة الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسن، أعمال ترفيهية واستغلال وقت الفراغ، وأعمال تعليمية وتربوية وأعمال اقتصادية واجتماعية وخدمات نفسية واستشارات مهنية.
ومما ينبغي التأكيد عليه في هذا المقام أن روافد الرعاية للمسنين في الإسلام تتعدد بتعدد مصادرها، أسرية ومجتمعية ومؤسسية، بل إن الاهتمام بالمسنين صحياً واقتصادياً واجتماعياً وترويحياً وأخلاقياً يدخل ضمن أبواب التكافل الاجتماعي في الإسلام.
ومن العجيب أن هناك العديد من النظريات والدراسات التي تناولت العمل التنموي والمشاركة للمسنين في المجتمعات الغربية على مختلف المستويات المعيشية بالنسبة للمسنين من جهة، وعلى مختلف القطاعات أو المجالات التي يمكن أن يسهم فيها المسن من جهة أخرى، بينما تعاني الأدبيات على مستوى الوطن العربي من قلة الأطروحات التي تناقش أو تعالج مثل هذه المواضيع التي هي في أمس الحاجة إليها. ذلك لأن التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة تشير إلى أن الكثير من المسنين يعيشون في حالة جسمية ممتازة ليس لها أي اضطراب أو عجز ذهني أو عقلي أو نفسي.
إن معظم المشاكل التي يعاني منها كبار السن مرتبطة بفقدان العطاء في فترة التقاعد، وعلى ذلك فهناك ضرورة ملحة لإيجاد وظيفة اجتماعية بديلة، ليكتسبوا منها إرضاءً كبيراً لأنفسهم.
من هنا فإن مفهوم المسنين في الوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة يتجه إلى التعبير عن عملية مستمرة من التغيّرات التي تصاحب المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان، أكثر منها تعبيراً عن فترة ثابتة محددة من حياته.
ويشير الاتجاه العام إلى أن المسنين هم فئة السكان التي تبلغ ستين عاماً فأكثر، والتي ترتبط في كثير من الأحوال ببداية التقاعد الرسمي عن العمل.
بَيْدَ أنه يلاحظ أن تحديد فئة المسنين، وبالتالي البيانات الإحصائية الخاصة بهم، قد يبدأ في بعض الدول النامية ومنها غالبية الدول العربية، بستين عاماً فأكثر، بينما يبدأ في كثير من دول العالم بخمسة وستين عاماً، وهو العمر الذي تستند إليه المقارنات الدولية.
لقد ظلت فئة المسنين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تجد اهتماماً كافياً على مستوى البحوث العلمية من ناحية، والسياسات والبرامج الاجتماعية من ناحية أخرى.
ومع إدراك بعض دول العالم، وبخاصة الدول الصناعية المتقدِّمة، لتزايد أعداد هذه الفئة، وبالتالي تزايد نسبتها في الهيكل السكاني والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية لهذا الوضع، تصاعد الاهتمام بالمسنين، وهذا الاهتمام كان له مظاهره على مستوى البحوث والدراسات الاجتماعية وعلى مستوى السياسة الإنسانية.
إن الطرح المعاصر لقضايا المسنين، لا يستند إلى اعتبارات إنسانية فحسب، وإنما يستند إلى اعتبارات تتعلَّق بعملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالأساس.
يترتب على ذلك الاهتمام بالمسنين ليس مجرد اهتمام بفئة عمرية أو اهتمام بدراسة تغيّرات ديموغرافية واحتياجات سكانية، لكنه أبعد من ذلك بكثير.
إذ نحن نتحدث عن ظاهرة متحركة ودينامية، تترتب عليها مسؤوليات اجتماعية واقتصادية تنعكس على عملية تخصيص الموارد، كما تترتب عليها آثار عميقة على عملية التنمية وذلك بخروج شريحة سكانية من سوق العمل وتداعيات ذلك على الموارد البشرية والاقتصادية.
إن علماء الاجتماع لا يهتمون عادة بالنمط الفردي للشخصية إلا في إطار التفاعل الاجتماعي الكلي للجماعة الإنسانية.
يقول الدكتور يحيى الحداد أستاذ الاجتماع بجامعة البحرين في ورقة بحثية له بعنوان (التخطيط الاجتماعي لرصد وتلبية احتياجات كبار السن): المسن سوسيولوجياً هو مكانة لها حدودها في سياق الجماعة يمارس أو لا يمارس أدواراً معينة تحكمه دوماً ما يُعرف بالفعل الجمعي والعلاقات الاجتماعية.
ثم، إن الشيخوخة هي ظاهرة اجتماعية نبعت من الجماعة، فهي التي أطلقتها بمواصفات معيَّنة على أفراد عجزوا عن أداء أدوارهم الاجتماعية، ليتسم طابع حياتهم بما أسماه بارسونز بالاغتراب الاجتماعي أو ما أسماه كولي بالهوامش الاجتماعية. وللأسف، فإن الشيخوخة عند بعض علماء الاجتماع المحدثين هي نوع من الإعاقة الاجتماعية والتي لا بد أن تفتقد الشعور بالقيمة والمساواة والمكانة في سياق تجمع تحكم معايير القوة والكفاءة وتعتمد على ما بقي في المجتمع من قيم وعادات وتقاليد أو ما يسميه تونيز بالنسق القيمي.
بَيْدَ أننا نؤكد أن المسن في شريعتنا السمحة جدّاً كان أو أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً كائناً من كان له من المهابة والتقدير والاحترام والإجلال والبِّر والإحسان الشيء الكثير والقدح المعلّى حقاً واجباً.
ونصوص القرآن الكريم وأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة شواهد حق ونبراس عدل على مكانة الشيخ والمسن.
- المستشار وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية