سكت ذلك الصوت الذي كان يترنم بتسبيح رب السموات، هاجر ذلك الطائر الذي كان يغرد بأجمل الدعوات، واحسن الصيحات.
ماتت أمي، ولو كنت أملك من عمري شيئاً لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة.
ماتت «أمي» فماتت السعادة في أسمى معانيها، ومات العالم كله من حولي، انطفأ النور الذي كان يضيء لي حياتي، وجف النبع الصافي الذي يروي جفاف مشاعري.
ماتت أمي.. فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب والعفو بلا حساب، ولا صدر يحتوي فينفث عطر الأمن والأمان بلا مقابل، ولا وجه يُعرف بإشراق من نور الله.
لقد ملكت مفاتيح نفسي.
ماتت سر أسراري، وهداية حيرتي، وترجمان كياني.
ماتت.. فلم تعد الحياة حياة, تساوى العسل بالمر، والنور بالظلام، ما عدت أرى شيئاً.
أي طعم للحياة بلا أمي؟ أين حرارة اليد التي كانت تدفع عني برد الهم، وتنفض غبار النكد؟ أين الوجه الذي كنت أقرأ فيه تاريخي وأيام عمري؟
ماتت من جنتي تحت قدميها، ومن إذا ضاقت بي الدنيا أرتميت بين يديها.
سكت الصوت الذي كان يترنم بالدعوات، ارتحلت الرحمة والعطف ودفء الهمسات.
توقف القلب الذي لا يعرف الا الحب والعفو والتسامح دون حساب أو انتقام.
غاب الوجه الذي كنت أرى فيه سهولة كل صعب ويسر كل عسير.
سكنت الأنفاس التي تبعث في نفسي الأمن والأمان.
ذهبت من كانت بلسم الجروح وغذاء الروح، لي.
وقد جعل الله الأم رحمة فلا يغيرها كدر، ولا يبدلها عقوق.
صعدت تلك الروح الطاهرة إلى ربها، في صبيحة يوم تعرض فيه الأعمال على الله، يوم الاثنين العاشر من رجب.
سبحان ربي الذي جمع في الأم أعظم الصفات.
فهي يد لا تعرف إلا العطاء، وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران، ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام.
الأم سهولة كل صعب. ويسر كل عسير.
الأم..؟ يا إلهي، أي صغير في الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟ وأي رجل - ولو كان ملكاً - تهدأ نفسه إلا بين يدي أمه؟ لو قيس كل نعيم الدنيا بفقد الأم ما ساوى شيئاً.
ماتت أمي.. حقيقة يدركها عقلي, وتنكرها نفسي وروحي حتى ألقاها، راح الكائن الذي كنت أملك فيه حق الرحمة، وما عاد لي حق في أحد.
انتهت أيامي من الأم, هذه الأيام التي كنت أعرف فيها الغد قبل أن يأتي معرفتي بالأمس الذي مضى, إذ يأتي ومعي أمي.
وبدأت أيامي من الزمن، وسيأتي كل غد محجبا مرهوبا، إذ يأتي لي وحدي، ويأتي وأنا وحدي.
فواللهِ لاَ أنساكِ ما ذرَّ شارقٌ
وَمَا حَنَّ طَيْرٌ بِالأَرَاكِ مُهَيْنِمَا
عَلَيْكَ سَلاَمٌ لاَ لِقَاءَة َ بَعْدَهُ
إِلَى الْحَشْرِ إِذْ يَلْقى الأَخِيرُ الْمُقَدَّمَا
اللهم بلغ أمي مني السلام، واجزها عني خيراً، واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها, واهدها بهدية من عندك، اللهم قد سلمت لك الروح، وانقطعت الأسباب إلا سبباً موصولاً بك، فاللهم أكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد, واجمعني بأمي في مستقر رحمتك, في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
مدير عام التجارة الخارجية وزارة التجارة والصناعة