ممنوعٌ الدخول.. غرفة العناية المركزة..
قرأها (حاج الطاهر) بصعوبة بالغة ولم يهتم بمعناها دفع الباب الزجاجي بعصا غليظة ودخل.. حاول الممرض جاهداً أن يمنعه دون جدوى ولكنه ابتسم بعد أن استقر الورق الأخضر بقاع جيبه.. وابلُ الأسئلة الذي أطلقه جعله لا يسمع ردودها من سأله عن أبنائه وشُلة (الضُمَنَة) وأحوال المطر.. وقال له بخبث:
- أمازال (حاج التوم) يمارس خطته الرباعية كل يوم؟ - هذا العجوز المتصابي لا يستطيع أن (يبصق) أربع مرات في اليوم.. إنه يكذب علينا ويدعي الفحولة؛ ويستطرد..
كما أن (حاجة السرة) لم تعد ذالك الملعب الفسيح الذي يسمح بتطبيق الخطط.
- ولكنها وافقتْ على الخطة الرباعية.
- لأنها تخشى أن يتزوج بثلاث أخريات.
أكوام الألم تعتصر قلبه الضعيف ، قليلٌ من الصبر والألم والقرف وفيض من ذكريات الماضي البعيد..
(الفاضل) الذي عاد إلى الحياة بعد أن (فرفر) وهو داخل الكفن و(النور) لم يمت وأخته (نفيسة) عاشت تسعين عاماً وماتت وهي تشتهي الرجال وهذا الطبيب الأبله وقائمة ممنوعات فلتذهب إلى الجحيم؛ لن يتخلى عن أكل المسيد، ولا عن زراعته، ولا عن عطور ليلى، صغرى زوجاته، تخرج من طياتها فتكاد تذوب جدران غرفته من حلاوته ولا عن (التمباك) الذي لازمه دهراً. يعوده (حاج الطاهر) محمّلاً إياه أخبار القرية.. ما زال يتخطى الممنوع ويبتسم الممرض... ويدخل وقد نَقَصتْ من محفظته بعض الوريقات الخضر.. لا يهم.
- شيخ (الطيب) (شال ليك الفاتحة)، والمقدم أعطاك هذه (البخرات) وأوصاني أن تستحم عند غروب الشمس. الأخبار تترى إليه.. بئر القرية المسكونة أصبحت تُخرج ماءً مالحاً وأحمر اللون.. (وست الجيل) وضعتْ طفلاً لا يشبه والده، والنسوة يهمسنْ بأنه (لبخيت العبيط).. وهو لا يكتفي بالأخبار؛ إنه يريد أن يكون فيها، يتلمسها بيده، ويراها بعينيه، ويصطدم بردة أفعالها. ما زال الألمُ يعصرُ قلبَه ولكنه أشد قسوة هذه المرة، إنه يعرف علب الدواء بألوانها.. وضع تلــك الحبة الصغيرة أسفل لسانه واستكان قليلاً.. أسماء بالإنجليزية بعلب الدواء وقْعُها جميل وطعمها مُر (لازكس، أسلوكي، أيزروديل).. يخدع طبيبه بأخذ جرعاتها ويستعيض عنها بالقرض والكمون (وأوراق النِّيم). أزيز التكييف ينخر في عظام من الفلين يكسوها لحم رقيق متجعد.. كان يظنه (الدبس) عندما بدأت أقدامه تتورم..
قال له الطبيب: (إنه مرض القلب).. وضحك (حاج النعيم)؛ فمرض القلب عنده لا يُصيبُ إلا الكفار. أزيز التكييف يأتيه مختلطاً بأقدام الممرضات بالخارج وبعض الزائرات ذوات الكعوب العالية.. والسوق الممتلئة وأصوات بعيدة لم يميزها؛ ربما هو على وشك النوم هذه المدينة تضج بالفوضى، ولكن جدران الأسمنت هذي تمنع كل شيء عنه حتى رائحة القهوة؛ رغــــم أن بخور (الجاولي) قد تسلل عبر مسام الأسمنت يحمل معه ذات الصوت وهو الآن أكثر وضوحاً هذه الهمهمات تذكره بشيء ما، وذاك الإيقاع المنتظم أين سمعه؟؟ يهز ذاكرتي بعنف فتتبعثر بقعر اللاشيء ثم يبعثرها ثم يتذكر. يا الله !! إنها أصوات النوبات هل هو طبل (عبد الظاهر)؟.. يضرب بكفيه جبينه المملوء بالأخاديد العظيمة بلون التراب..
كيف ينسى أنه مولده (صلوات الله وسلامه عليه).. لقد أقاموه في العام الماضي..
تحرك مستعجلاً.. صفائح الدم في عروقه تمور مع الإيقاع.. لم يعتذر لموكيت الغرفة الفاخر وهو يلقي (بسفته) عليه.. أطل برأسه حذِراً.. الممرض يغط في نوم عميق، ووريقات (حاج الطاهر) تطحن بمعدته هنيئاً مريئاً. هواءٌ حارٌ ورائحة التراب المرشوش بالماء.. وأنوار وزينات.. وطعم رائع لكل شيء حتى الألم.. والصوت يزداد قرباً والطبل رتابة.. (وحاج النعيم) بالصف الأول يترنح الله.. الله.. حي قيوم.. حي قيوم. كل شيء يتلاشى.. (حاج النعيم) يهمهم.. شُلة الضُمَنَة ليس لها غير سيرة الناس.. (وبخيت من يومو عبيط ).. (وحاج التوم) يبحث عن البذرة بعدما أصبحت بوراً.. (قال خطط رباعية قال). الله.. الله..
حي قيوم.. حي قيوم ويزداد الطبلة حرارة والرؤوس دائرات لا تستقر.. وكيان (حاج النعيم) يمور بالحصى والماء وكبسولات (الايزروديل) والضوء يتوهج ثم يخبو كل شيء حتى الظلال تتلاشي. الله.. الله.. حي قيوم.. حي قيوم يسكت (حاج النعيم).. لا يرى غير النور وبعض الأيادي الممتدة وعيون واجمات.. والألم يزداد ضراوة والطبل إيقاعاً.. (وحاج النعيم) يبحث عن قرض يضعه أسفل لسانه ولا يجده.. فيتوقف كل شيء عدا ثغره يبقى مبتسماً.