في رحلة ربيعية.. كان مقدراً لها أن تتم في شهر مارس - آذار - الماضي، إلا أنها تأخرت إلى إبريل أو (نيسان) كما يحلو للأشقاء اللبنانيين.. نظراً لظروف عملية خاصة بـ (الداعين) لها من رجال أعمال تهمهم أعمالهم بقدر اهتمامهم بـ (الشأن العام) سياسياً وتاريخياً: (إسلامياً).. بانشطاراته المذهبية المروعة، و(عربياً).. بحالة شموسه الآفلة، لأجد نفسي
معهم ومع صحفي صديق غير الصحفيين: ثقافة في مخزونه وطلاقة في طرحه.. في (بيروت): مدينة حب الحياة والسهر، والمكتبات والمقاهي والطعام الجميل، والجبل البارد، والسهل الدافئ.. والبحر العريض، الذي إن نسيته.. فسيذكرك بنفسه من (الروشة) أو كورنيش (المزرعة) أو (زيتونة بيه)، الذي انشق الشاطئ عنه برماله ومقاهيه ومطاعمه.. تحت خيام بيضاء، تذكرك بـ (شطارة) اللبنانيين.. وقدرتهم على الاستفادة من أي موقع: سواء أكان (برجاً) أو (عمارة شاهقة) أو مساحة من رمال الشاطئ البيضاء تواجه البحر وقواربه وسفنه الصغيرة ويخوته.. من جهة، وخلفها من الجهة المقابلة.. يقف فندقا بيروت التاريخيين والشهيرين اللذين كانت تطبخ فيهما أخطر السياسات، وتبرم فيهما أكبر الصفقات العربية.. حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي: (فينيسيا).. الذي تم تجديده فاستعاد ألقه، والـ (سان جورج).. الذي انطفأت أنواره وتهدل بنيانه وشحبت ألوانه، ليبيع (شطار) اللبنانيين.. ذلك الموقع.. ذلك التاريخ في (شاطئ الزيتونة) هذا أو (زيتونة بيه)، الذي لا أدري إن كان يحمل اسمه - هذا - من قديم الزمان وسالف الأيام.. أم أنه وُلد - أو صُنِّع - حديثاً على يد هؤلاء المسوقين (الشطار)!؟ ليتمدد عليه ذلك الممشى الخشبيي الراقي والأنيق.. وقد انتصبت إلى جواره تلك السلسلة البيضاء من الخيام الواسعة المشدودة، وتحت كل خيمة منها.. إما مطعم أو مقهى.. بينما ارتفعت خلفهم تلك الأبراج السكنية الخليجية - بالتأكيد!! - الهائلة والرائعة في تصاميمها وبراعة تنفيذها.. وقد سطع بينها برج (الأمير الوليد بن طلال) حفيد الزعيمين العربيين المؤسسين والكبيرين: الملك عبدالعزيز.. مؤسس (المملكة)، والرئيس رياض الصلح.. زعيم الاستقلال اللبناني - وأول رؤساء وزرائه - شراكة مع الزعيم بشارة الخوري.. أول رؤساء الجمهوريات اللبنانية، لنأخذ قهوتنا بعد متعة السير على الممشى وشمس الغروب تحاذينا وتودعنا.. بمقهى (الكابوتشينو)، تحت واحدة من تلك الخيام: بطاولاته الجميلة ومقاعده الفاخرة وقهوته المحكمة.. رغوة ونكهة ولوناً، ليقترح أحدهم اقتراحاً (سياحياً) - نسيته أعمارنا أو تجاوزته تجاربنا - بأن نأخذ صورة فوتوغرافية (تذكارية).. يبدو في خلفيتها (برج الأمير الوليد)!! فقلت: ولِمَ لا.. فـ (الوليد) منا وفينا، وهو عدا أنه ابن الأمير طلال بن عبدالعزيز، وهو من هو في مواقفه وشجاعته وريادته ورؤاه السياسية المستقبلية لـ(المملكة)، فقد ورث عنه تلك الروح التنويرية.. عملاً لا قولاً، وهو ما لمسناه.. ونلمسه في دعمه لحرية الرأي وقائليه، ولـ (الفن) في تجلياته الغنائية والموسيقية، وللأعمال الأدبية.. عبر قنوات (روتانا) المتعددة، التي يملكها ويشرف على توجهاتها.. بصفة عامة، ولـ (السينما).. ومعركة وجودها واحتضان أجيالها من الشباب في مدن المملكة.. بدلاً من تبعثرهم بين المدن والعواصم الخليجية.. بصفة خاصة.
صوَّر المصور - وقد كان أحد العابرين -، وانتهت التعليقات و(التريقات) عن احتمال تجمهر المارة.. حول (نجوميتنا)!!، لكن (المكان).. كان يستبقينا بجماله.. وقد زحفت علينا نسمات الليل، لنتناول (عشاءنا).. تحت خيمة أخرى من تلك الخيام: (خيمة.. مطعم بابل).. فيطول بنا الليل، ويطول بنا (الكلام).. الذي شاركنا فيه الصحفي القلق والمتدفق، والحاضر في بيروت والغائب عنها: أحمد عدنان..!؟
لكأن شاعر لبنان الكبير (سعيد عقل) يحضرنا آنذاك على شاطئ بيروت الساهرة.. وهو يقول:
(هنا على الشاطئ أو فوق عند رباً تفتح الفكر.. قلت الفكر نيسانُ)..!!
* * *
صادف توقيت وصولنا إلى (بيروت).. الأيام الثلاثة الأول من أيام تكليف السياسي اللبناني المعتدل والمقبول من طرفي الصراع السياسي اللبناني الأكبر.. وأعني بهما (الثامن) و(الرابع عشر) من آذار: (تمام صائب سلام) بـ (رئاسة الوزارة) وتشكيلها.. خلفاً للرئيس (نجيب ميقاتي)، الذي آثر لـ (اسمه) وربما لـ (مستقبله) السياسي السلامة بـ (استقالته).. خوفاً من تداعيات الموقف السوري وتشظيه، الذي سينال أول ما ينال.. من الجار الألصق به (لبنان)، وديمقراطيته الطائفية الهشة.. رغم النجاح الذي حققه (ميقاتي) ووزارته خلال سنواته القليلة في (الحكم)، والذي رأيت صورته في مارس - أو آذار - من العام الماضي.. و(بيروت) تستعد لصيفها الماضي، وهي تنعم بأعلى درجات الهدوء والاستقرار، وترتدي أجمل حللها في الشوارع والميادين والمقاهي والمطاعم والكازينوهات.. وعلى (شفاه) أبنائها بسمات الاطمئنان وفي (قلوبهم) فرحة بـ (صيف) واعد بهيج، وقد كان.. كما قال (المصرفيون) اللبنانيون فيما بعد، بـ (أن عام 2012م كان الأفضل للقطاع اللبناني على صعيد الأداء محلياً وعربياً)، وأن مؤسسات التصنيف الاقتصادي - كما قال محلل “النهار” الاقتصادي - منحته علامة B، وهي علامة لا تمنح جبراً للخواطر.. ولكنها تمنح لأصحاب النتائج المتحققة على أرض الواقع في لبنان، الذي يعتمد على (الاستثمارات) و(السياحة) الشتوية والصيفية اللتان تمتدان لستة أشهر في العام.. كـ (مصدرين) رئيسيين لدخله القومي، يأتي بعدهما تصدير فواكهه ومنتجاته الصناعية.. من الملابس إلى الأحذية، ولذلك.. كان الشارع البيروتي وحركته بين الحيوية والركود.. هما معيار نجاح (الوزارات) ورؤسائها أو فشلها، وهو ما جعلني أضع يدي على قلبي.. مع رحيل (ميقاتي) عن كرسي رئاسة الوزراء.. اختياراً وإصراراً، وقدوم (سلام) إليه بهذه الروح الطوباوية المتفائلة.. في مرحلة هي الأعسر والأدق والأكثر حرجا وخطورة في حياة لبنان وتاريخه المعاصر... حتى وإن (نجح) الرئيس المكلف (تمام سلام) في تشكيل حكومته، فإن النجاح الحقيقي يظل مرهوناً بنتائج ما تنتهي إليه معركة (كسر العظام) التي تجري إلى جواره في سوريا بين من لا حصر لهم من المتقاتلين.. من بينهم الجيش الحر!؟ وهو ما يجعل محبو لبنان وعروسه (بيروت).. يضعون أيديهم على قلوبهم، وهم يشخصون بأعينهم إلى السماء.. يستمطرون رحمتها..!
* * *
فـ(شارع الحمراء) الشهير أو (شانزليزيه) بيروت.. مايزال على توهجه حتى اللحظة: تغص معارضه بزوارها، وأرصفته بالعابرين فوقها من الجنسين شباباً وشيباً، ومقاهيه ومطاعمه التي لا حصر لعددها.. تمتلئ وتفرغ من زبائنها على مدار ساعات الضحى والظهيرة، وهو ما يتمنى دوامه واستمراره كل محبي (بيروت) في داخل لبنان وخارجه، لننتحي ركناً في شرفة مقهى (كاريبو كافيه).. الذي أصبح وكأنه مقهانا المفضل، لنواصل ما انقطع من أحاديثنا.. طوال دقائق هبوطنا من جبل شملان - قضاء عالية - إلى قلب بيروت، التي تمتد أحياناً إلى ثلاثين أو أربعين دقيقة خاصة في أيام الآحاد، والتي كان يخترقها إما (فيلسوف) الجماعة بتقاريره العلمية المطولة.. أو (مرشد الجماعة) الذي لم يكن يعرف شارعاً من شوارع بيروت ومع ذلك كان يصر بصورة (كوميدية).. على أن يتولى إرشاد قائد مركبتنا الأعلم والأعرف بكل شوارع وأزقة وطرقات بيروت.. من سهلها إلى جبلها!! وقد شغلنا في جلستنا بين فناجين (الإكسبريسو) و(الكابوتشينو) والـ (كافيه لاتيه).. خبر انفجاري (ماراثون بوسطن)، والتسريبات الأولية المقلقة التي أطلقتها صحيفة (الواشنطن بوست) عن الفعلة بأنهم عرب مسلمون.. ثم عادت لنفيه فيما بعد، وقد كان بعضنا يتابع تفاصيل ما يستجد.. عبر الخدمة الخبرية على (الجوال)، لنقوم بعد أن شبعنا (قهوة) و(كلاماً).. للسير نحو مكتبة (بيروت) الأشهر: (مكتبة بيسان).. وصاحبها وأمينها الأستاذ عيسى الأحوش (أو.. “مدبولي” بيروت).. الذي ربما قرأ نصف ما في مكتبته.. وهو ما جعل ويجعل الحديث معه والاستماع إليه متعة، تعوض نقصها في (قهوته) التي يحرص على تقديمها لرواد مكتبته - الكثيرين فعلاً - بكرمه العربي وحميميته ودفء محبته، وهو يتحدث في الأدب والتاريخ كما يتحدث في السياسة، وقد قدم لنا (سيناريو) بهيجاً ربما رسمته أحلامه وأمانيه.. عن (الشام) التي يتردد عليها بين الأسبوع والآخر، وانقشاع الغمة عنه خلال شهور.. وسط دهشتنا!! ليبدأ كل منا في البحث عن الكتاب أو الكتب التي جاء لشرائها، ولم يكن في واردي غير البحث عن رواية (ساق الغراب) لزميل لم أسمع به، ولم أتعرف عليه من قبل.. هو الأخ (يحيى امقاسم)، إلا انني لم أجدها.. لكن قدماي ساقتاني بين الأرفف إلى بديل آخر، لو لم أعثر عليه مصادفة.. لسعيت إليه.. هو - ربما - آخر أو أحدث ما كتب عن شاعر العروبة الأول في العصر الحديث: (نزار قباني) بعد رحيله (1989م)،قد حمل عنواناً مثيراً: (نزار قباني.. متناثراً كريش العصافير) لكاتبه الأستاذ (هنري زغيب)، لأشتريه.. ويشتريه معي معظم أعضاء الرحلة.
عندما غادرنا المكتبة.. واتجهنا نحو البحر بدا الطقس شديد البرودة وعلى غير المتوقع في مثل هذه الأيام من شهر نيسان - إبريل -، أما فوق الجبل.. فقد كان الطقس شتائياً بكله.. بغيومه وأمطاره ودرجات برودته المتدنية التي تصل إلى السبع درجات في بعض الليالي، ومع دهشتي.. كنت أسأل أحد الأشقاء اللبنانيين ممن كانوا في رفقتنا من سكان الجبل عن تفسيرٍ لهذه الظاهرة الشتائية المتأخرة من وجهة نظري؟ فأجاب ضاحكاً بـ (مثل) شعبي لبناني صميم.. عندما قال: (مادام النصراني.. صايم.الشتا قايم)..!! وهو ما يعني أن الشتاء سيستمر إلى أن ينتهي صيام الإخوة المسيحيين .. ويأتيهم (عيد الفصح) بـ (كيكه) و(بيتي فوره) و(بيضه الملون) في الخامس والعشرين من (نيسان) - إبريل - حسبما أذكر.
* * *
على أي حال.. ليست مشكلة لبنان هي في شتائه.. إن طال أو قصر، ولكنها في نجاح أو فشل رئيسه المكلف الجديد (تمام سلام) في إبقائه بعيداً - وكما فعل (ميقاتي) - عن أتون الصراع المدمر إلى جواره، وفي تشكيله لحكومة اتفاق ووفاق.. أو (أمر واقع)، وفي تخطيه لعقبة قانون الانتخابات الجديد المعروض على مجلس النواب.. وإلا فإن (كرة الحكم) في لبنان ستعود إلى (نجيب ميقاتي) ثانية.. أو أي (ميقاتي) آخر.. تقبل به الأطراف المتناحرة.. حتى يبقى (لبنان).. جنة من جنان الأرض، أو كما قال شاعره سعيد عقل:
(هي جنة الله إلا حيثما هنئت
عيناك.. كل اتساع بعدُ بهتان).
dar.almarsaa@hotmail.comجدة