العنوسة للذكور والإناث أخطر وبكثير من البطالة وشح الإسكان، وعندما تجتمع هذه القضايا الثلاث في أي مجتمع، فلاشك أن البحث عن خلل في عناصر نمو هذا المجتمع يصبح أكبر وأوسع من أن يتجاوزه العقل بالحلم والتأني والإرجاء، وعندما يتعرض مجتمع لخطر فمن الخطأ مواجهته بنفس الآليات التي أنشأته.
فالقضايا الاجتماعية الناتجة عن حركة النمو والتطور ستنمو أيضاً وتتطور هي الأخرى طالما أن الأدوات المحركة أو المنتجة هي ذاتها دون تطوير، بدليل أننا نرى توافر إمكانيات مالية وذاتية راغبة وبحق في تحقيق أرقى وأفضل النتائج دون أن يقابل ذلك تدن في نسب هذه القضايا إن لم نقل نموا يزيد التعقيد ويصعب الحلول، وقد ذكرت وكررت في أكثر من مقال حاجتنا الماسة في إعادة فلسفة رسم الخطط التنموية والانتقال بها من فلسفة النمو التراكمي إلى فلسفة النمو الحر الذي اتبعته ماليزيا ثم إندونيسيا وتركيا والبرازيل، لأن تحرر الإنسان من رواسب المعتاد والمتعارف عليه إلى ما يوائم طموحه ويلائم حاجة المستقبل هو التطور الحقيقي لعملية النمو وقيمته، فالإنتاج ألريعي وإن حجب الثقوب وستر العيوب فلن يستمر إلا بتوفر البديل الطبيعي الذي حتى مع توفره لن يحل أو يحد على الأقل من نمو تلك القضايا الاجتماعية بقدر ما يمكن أن يستمر في عملية الحجب والستر لحقيقة غير مقبولة، وإذا كان هناك اتجاه لبناء الاقتصاد المعرفي ليحل بديلا عن الاقتصاد ألريعي فإن هذا الاتجاه لا يمكن له النجاح ما لم تتوفر له القواعد والأسس اللازمة لبنائه.
إن فلسفة الاقتصاد الحر والسوق المفتوح تحتاج للتطبيق إلى مجتمع مهيأ في نظمه وقوانينه وتشريعاته للتناغم والانسجام مع هذه الفلسفة، وبرغم أننا نرى توجهات صادقة في هذا الاتجاه إلا أن ما يمكن ملاحظته هو بطء وثقل في الحركة في جوانب مهمة وسرعة وخفّة في جوانب هامشية وجمود بارد في جوانب أهم، وليس مهم التفصيل في هذه الجزئية لهذه الجوانب باعتباره خاصا بجهة الاختصاص كرأي اجتهادي يؤشر لبعض النقاط بغية البحث عن حلول تختصر الزمن وتسبق تأزم القضايا الاجتماعية كفريضة وطنية لا شكر عليها.
وفي قضايانا الثلاث ذات الأهمية القصوى وهي البطالة وشح السكن والعنوسة أجد أن هناك ما يشبه التناقض بين العنوسة من جانب والبطالة وشح السكن من جانب آخر، رغم أنها تبدو متلازمة لشح الإمكانية المادية إلا أن الواقع يظهر ثراء في الإمكانيات تبدو واضحة في احتضاننا لأكثر من تسعة ملايين وافد مع تملك قرابة 25% من المواطنين مساكن كافية لإيواء باقي السكان من مواطنين ووافدين، كما أن نسبة الإناث للذكور تكاد تكون متوازية وإن زادت بنسبة قليلة لجانب الذكور، أي أن الوضع العام للصورة جيد وغني وليس متوقعاً منه إفراز أي صعوبة تؤخر الزواج بل إن نسبة تعدد الزوجات لدينا ربما يفوق غيره عربيا وإسلاميا بكثير، مما يؤشر ويعطي انطباعا سليما عن مدى الإقبال على الزواج بشكل عام، لكن أن تظهر الصورة نسبا موجعة في حالات الطلاق والعنوسة والعزف عن الزواج فإن التناقض يصبح بين الظاهر والباطن، أي بين الصورة الظاهرة للرائي وبين الحقيقة الكامنة التي يعيشها الإنسان ذاته، إن من بين ما أفرزته فلسفة النمو التراكمي سياسة الاستهلاك والتملك أو ما يطلق عليه الثقافة (السيبرناطيقية) التي تحول الإنسان إلى آلة تدار لخدمة الأقوى والأقدر وتسخيره لخدمتها، علم بذلك أو لم يعلم، قبل بذلك أو لم يقبل، فالإنسان أصبح يركض ويلهث ليتماها مع الآخر ويتجانس معه لتحقيق الذات التي تبدلت قيمتها من قيم إلى أثمان، وصار المظهر أبلغ من الجوهر، فتلاشت القيم والفضائل أمام بريق المظهر, وأصبح الكل يسعى إلى البهرجة والادعاء، لتتكسر وشائج الكينونة الإنسانية بسياط الحاجة الاستهلاكية وحب التملك والاستحواذ، وهنا دخل المجتمع في صراع غير متكافئ بين نخبة غنية وسواد مقلد، فتعسرت القدرة والإمكانية وصار الدخول في هذا الصراع مرهق وكاسر للظهر لينكفئ البعض داخل ضعفه وعجزه، ولأن الزواج تحول إلى مشروع وجاهي ظهرت قضية العنوسة.
لو أن مسار النمو الاجتماعي سعى لحماية القيم والوشائج، بإيلاء نموها وتطورها ما يستحق من أهمية لتحقيق نمو حضاري بدلا من الركض خلف النمو المدني بإنشاءاته الجامدة، عن طريق تحرير النمو في كافة جوانبه وخاصة الإنسانية والاجتماعية لتكون مواكبة وموازية للنمو المدني، لما صرنا في عصر نبني فيه البروج ناطحة السحاب ونقف يائسين أمام تعطل مصعده، ليس عن عجز طبيعي فينا ولكن نتعالى على التشبه بمن نراه أقل وجاهة، وهنا مكمن الداء وصانع البطالة والعنوسة وشح السكن.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni