|
إلى مخيّمي: (تلّ الزعتر.. النهر البارد)
كلّ صباحٍ يوقظني طنينٌ قديمٌ مألوفٌ، لا يُؤلمُ أُذُني، ربّما يُنقص درجات من سمعها، يشوّش فيها مقامات موسيقيّة تحاصر مقام النهاوند، يفلت منهم مهما اشتدّ الطنين، يُشبه أبي - لا أعرف كيف يكون التشابه بين مقام موسيقي وإنسان لم يكن على علاقة بالموسيقى. أنْبَأَتْنِي قبل ربع قرنٍ بصّارة غجريّة إسبانيّة في ماربيّا، قرأَتْ جرحاً في كفّي اليُمنى، أهدتني شريطاً موسيقيًّا، قالت: (هذا أنت في عالم الموسيقى)، وحينما سألت عن المقام،
قالوا: (نهاوند). كُلّ صباحٍ، الطنين ذاته وخيالاتٌ لحيواتٍ مضت أو آتية، أحياناً يسقط دمع لا إرادياً؛ وخفقات متسارعة في القلب، طنينٌ وخفقان ألفتُ رفقتهما منذ عقدين.
تدخل نحلة من نافذة المطبخ، تحوم بأجوائه، ولا تستقرّ على أي أثاث فيه، لا تكلُّ من الطيران، لا تَملّه، وهنا افتراضٌ منّي: هل يعرف النحلُ المللَ؟
تتسلّلُ حاجزَ رئتيكَ رائحة الجبنة النابلسيّة، المقليّة للتوّ بالسمنة الحمويّة؛ تأكل قطعةً، تشرب برتقالاً مع حبّتي دواء للمفاصل ونصف حبّة للقلب؛ يقول الطبيب بعد أشهر من الفحوصات: «النبضات الثلاثيّة الإضافيّة بين النبضتين ليست من الشرايين أو عضلة القلب إنّما هي طبيعة قلبك منذ ولادته». تتأمّل وجوه بناتك، يتكلّمن عن أوقاتهنّ في المدرسة، صامتاً لكنّ ذهنك محتشد بأفكار متضاربة، تحذّرهنّ:
o لا تحاولن اصطياد النحلة، لا تؤذين النحل..
في الذهن يشتدّ الطنين اليوميّ، والخفقان لا ينساك: لا بدّ أن تهاجر، أن تفلتَ من مكائد الأعراف؛ تقطع شوطاً في جدل بين طرفين متعاركين: رغبة متمرّدة وقدرة مُتردّدة.
o «النحلة بُشارة» يا بنات، علّمني أبي
تُرمى الأفكار بسَمْعِكَ شَرراً، كميكروفون يصدر أنيناً وصريخاً؛ تستغيثُ؛ تقول أمّي: «إنّ النحل إذا حام بأجواء بيت عمَّرَه وَرْداً ووِدّاً»، تقول البصّارة الإسبانيّة: (بينَكَ والنحل عهدٌ).
المسألة:
أنّ الرغبة لا تُنقص، لا تتنازل عن جموحها، وأنّ القُدرة -في المقابل- لا تزدادُ فتقلّصُ بعضاً من أطماع الرغبة...
كنتُ في زمن برزخي أمكثُ مُجبراً على مقعدٍ خشبيٍّ، تُدلقُ في سمعي الغضّ أساطير الأخلاق؛ آه هي المدرسة، الجريمة الأولى في حياة الإنسان، القاتل الأوّل. لكنّ الدنيا كبرت وكبرنا... «لماذا تشترط الحياة سلسلة من القهر حتّى تُقدّمَ لأبنائها الماء، الخبز، الأدوية، والعكّازات؟»، «لماذا نخاف الضحكات؟»، ويقول بعضنا: (الله يجيرنا من هذا الضحك)؟!
كنتَ حرّاً قبل الوظيفةِ؛ ما خطيئتكَ اليوم حتّى تُلفظَ في البريّة لتعصُرَ من لحمكَ ماءً، ومن كبدكَ تعجنُ خبزاً! لطالما بالغت الأسفار القديمة في تبرير عذابات المرء من أجل العيش، فماذا يقول الطبيعيّون!! مضت سنوات بعيدة، وإذ هناك -قريباً من الحكاية كلّها- أبٌ سياسي يُطبّب بالثوم جبينَ ولدٍ عاصٍ، لسعتْه نحلة دفاعاً عن عسلٍ مختوم.
«اللسعُ وجه آخر للعسل»، تقول لنفسك اليوم بعد سنواتٍ طويلة.
o كنتُ حُرّاً قبل الوظيفةِ..!!
o أبواكَ كانا مُكَبّلينِ بعيالتك؛ حريّتُكَ عُبوديّتهما.
o كنتُ طيراً قبل المدرسة.
o قصّوا أجنحتك، دجّنوك... أنت في التعارض العظيم بهذا العمر بين وعي المادية، وعدائك للمدرسة والوظيفة...
لا أظنّها مصادفة في اللغة العربيّة أنّ مدرسة من دَرَسَ، والدارس الخراب اليباب: ما الذي فعلته المدارس؟
المنزلةُ:
أنّ المُسدّسَ محشوٌّ برصاصاتٍ محدودة، وأنّ المعضلة التي تشغلُ بالَ الطيّبين أسئلة سهلةٌ: «كم عددُ الأشرار المتربّصين بالبستان؟ هل للخوف جيشٌ ليُقهرَ في إحدى النهايات؟!»
شردتَ قليلاً عند كلمتي: (مسدّس.. و.. طيّبين)؛ ها أنتَ تحاول التركيز.....
ماذا يردُّ القاضي بأحكامه إنْ عدل؟ أيُرجع فرحة ابنتِكَ بصعودها خشبة المسرح!! يومها لم تنصت جيّداً. كان الأشرارُ يحتلّون جزءاً عزيزاً من مخّك، قدرتك على التركيز.
**
يتأمّل من شرفة المقهى بستاناً، يسألُ أصحابه: لمن البستانُ إذَا (المُتَقَهْوُونَ) أطالوا التحديق به واستنشقوا أريج أوراقه وزهوره؟
يُفكّر بالأنف ليفصل بين اصطراع رائحتين عزيزتين؛ القهوة والبستان، القهوة تذكّره بثديٍّ، والبستان يذكّره بلسعة النحل، أفكاره ليست مفهومة له. يتقنّعُ بسلوكٍ مغايرٍ كيلا يتسلّل أحد إلى ذهنه المحتلّ.
لماذا آثار الخوف من الحرب الأهليّة اللبنانيّة لم تنتهِ؟ لماذا لا تزول صور الجثث الملقاة على قارعة الطريق، كنت تراها من بين أصابع يد أمّكَ وهي تحاول أن تغمض عيونَكَ،
o يالفضولك أيّها الولد المتلصّص على الموتى والأجساد العارية، أما من حرمة لعينيك.. تفضّل الآن.. هيّا تخلّص من تلك الصور التي التقطتها في طرابلس قبل قرابة أربعين سنة.
الفطرة متلوّنة والأخلاقُ ابتلاءٌ ضدّها. فطرة تدفعُ باتّجاه الشرّ تُقْي الخوف، «البقاءُ للأقوى»؛ لعلّ دارون على حقٍّ ونيتشه أيضاً، حينها يبدو مُبرّراً جنوح السلوك باتّجاه ما هو شريرٌ، يتمازج الخيرُ بالشرِّ كأنّهما تناقضٌ وهمي وإغوائيٌّ. تتَّضحُ الصورة أكثر بعد انزياح الغبش الذي صنعه المعلّمون الأوائل، خارج سوقيّة الأضداد ونزقها في تقليص احتمالات حياتكَ لاحتمالين اثنين فقط.
o تبدو الوصايا في مأزق أمام هذا المنطق المضاد
o ما هذه الهلوسات القهرية؟ ماذا تريد أيّها الأعوج؟
يدنو البستاني من الشُّرفة الدانية، يُقدّم لهم أوراقاً خضراء:
o «شُمّوا هذه الأوراق....... تَهدي إلى راحة الأرواح»
**
الخروفُ يتقلّبُ على السفُّودِ فوق الجمرات، والمصطافون يتسامرون، يتناقلون أنباء، يتناوشون من لحمه قبل النضج، يُشيدون باللحَّام، يستعيذون من شرّ عملاء إسرائيل.
الحكايةُ:
أنّ الخروفَ قد ذُبحَ فعلاً. وأنّ الذابحَ لا يدري أنّ الأولادَ قد لعبوا معه لأيّام خلت؛ منحوه اسماً إذا ما نطقوه تلعثموا، ثمّ اصطخبوا ضحكاً عالياً، يعرفه مَن راقبَ أولاداً يلعبون. سوف يكتشفون لاحقاً أنّ خروفهم الذي أسموه: (خاوماء) نُتِفَ لحمه من على سفّودٍ، بينما المصطافون يتنبّؤون بحروب في الخليج باسم الدين والديّان.
في الحقل منحلة عسلٍ، يحومُ حولها صبي فضوليّ، يطمعُ أنْ يُطعَمَ العسل على أمّه؛ لسوف ينال نصيباً من اللسع قبل أن يجني العسل. ثُمّ في الأربعين إذ يبلغُ أشدّه يتأمّل طويلاً قصّة النحلِ والعسل، ويتقلّب ذهنه طويلاً في فلسفة العمل وحلم الكسل.
**
المجزرة:
لقد مسحوا المخيّم كلّه؛ (ديموغرافياً) كانت أشباحُ الصفيح ظالمة بحقّ الجيران. الصورُ الباقيات البيضاء والسوداء تفضح آثار حقدٍ دموي حتّى على التنك وبقايا الكوانين؛
«ما كان ينبغي للمخيّم أن يكون هنا»..
«نَكْرَه الصفيحَ»
لا يُزعج الرحمة هذا المنطق الفجُّ الذي يتبجّحُ به القتلة المنزعجون أو المنزعجين.
«دمُ القاتلين أزرق في موسم الغفران يُكدّره دمٌ لاجئٌ» يترنّمُ الراعي، يمجّدُ خرافَه المسلّحة.
اللاجئونُ العُزّلُ الفقراءُ (ذئابٌ)، المسلّحونُ القتلة (خرافٌ)!!!
هل لاحظتَ أنّ كلمة صفيح مُشتقّة من صَفَحَ صَفْحٌ يصافح؟
والفصح عيدُ الجيران، يالله: (أَسْقُفُ الصفيحِ لا يطيقُهَا أُسْقُفُ الفصيحِ)
وجماعة (اصفح الصفح الجميل) أبادتَ المخيّم الثاني كلّه، وبدمٍ (باردٍ).. أفتى شيخهم.. لاحظ أيضاً، شاخ يـ.....
دعنا من ملاحظاتك اللغويّة لن تُفيد المحكمة، وانتبه من سطوة الدُّوَار، لا تفقُدْ توازنك، وتذكّرْ في ساعاتِ الضيّقِ اسمَكَ، أكلتَكَ المفضّلةَ، مشروبَكَ، وتفاصيلَ القيامة.. إيّاك أنْ تنسى جاكيتك وشالك وعصاتك فالقاعة باردة.
**
يقترح الطنينُ هُدنةً، بينما سهرة العُوْدِ في بيتكَ قد بدأتْ، وتوافد الرفاق؛ لا يطيقُ الطنينُ الابتعاد عنكَ، والجلسة فيها مقاماتٌ وغناءٌ:
يُسمّى هذا المقامُ «راحة الأرواح» عبثاً تحاول التقاسيم والراح أن تُحرّرَ شقّاً من الذهن المحتلّ. الرغبات محتلّة، الحرية محتلّة، والنَّفْسُ تُحلّقُ فوق كلِّ الأسوارِ وتقهرُكَ طموحاتُها، يا لنفسكَ ألا ترضخ.
**
يأتي دوركَ، صدى اسمِكَ يرتدُّ من قُبّة القاعة. أعداؤكَ في قفصٍ نحاسي يتثاءبون مَللاً. يأمرُكَ القاضي أن تُلقي عصاكَ؛
تطفو أصوات: «حارٌ وراحٌ، لسعٌ وعسلٌ، حبسٌ وسبحٌ، حزمٌ ومزحٌ، عَدْلٌ وعَدْلُ، مأتمُ..»
«عُدْتَ تلهو باللّغة، دَعها قليلاً ومكائدها والْتَفِتْ للمحاكمة: هل سوف تلقي قصيدة أم مُرافعةً... «.
صورٌ تعلُو لا يُعْلَى عليهَا..... (تمّ إخفاء قرابة 6000 كلمة هاهنا -تحديداً- ساردة حكايات عن كلّ صورة تعلو، وتمّ تقديمها في المرافعة، وبطلب من القاضي تمّ عدم نشرها في الجريدة)
صورٌ تعلو: قبلات عرفات الأخيرة، قبضة مانديلا عالية، صيام غاندي، نسرٌ ينتظر طفلاً سودانيّاً في الجنوب يحتضر في البريّة، فنّانة سوريّة تعترضُ على غزو العراق عارية في شوارع أوروبا، شاعر جنوإفريقي أعدمه الأبارثيد[1]: «غداً تعترف حكومة بعديدها وعتادها أنّها لا تقدر أن تحيا إذا لم تقتل هذا الشاعر، الذي يكتب أغاني عن الحرية، اخرجي يا أمّاه وغنِّ نشيد الحريّة»، يقول بنجامين مولوسي لأمّه.
تدخل نحلاتٌ إلى صحن القاعة، ينشغل القاضي بهنّ:
«لا تؤذِ النحل يا سيّد القاعة»، أمّا الذين في القفص فقد غلبهم النومُ.
أخرجُ مشغولاً بي، أمّا المحكمة فدائرة، تدور، تلقي الأسئلة: ما الذي أوعز للعرب خيانة الباب العالي، كيف تمّت مجازر الأرمن، مذبحة الموارنة في الجبل، كيف يعمى العربي عن مأساة الكردّي..؟؟
لم تعُد قصّتُكَ قصيرة، لماذا تخلط بين الفكر والإبداع، ويالعنة السياسة تطاردك في كلّ مكان؟!
o الفرق بيننا: أنّكَ تنتمي، وأنّي لا أنتمي.
o تقصدُ للوَعْي؟!.. لقد فرّت من حديقتها القصّة...
o في الروحِ غصّةُ.
هل حقّاً تذكر عام التاسع والسبعين؟ قال: إيّاك أن تنساني وإلاّ انحلّت السنوات لا تذكرها ولا تذكرك.
**
النحل وثنٌ، وعلى جبيني نعمة منذ العام التاسع والسبعين، حين لسعَتْه نحلة فانكشفَ قلب أبي، سقَاني بيده قليلاً من المشروب وطبّبَ الجرحَ مُبتسماً: «صار دمك معسولاً يا ولد، فاضحكْ».
لم تخرج النحلة من نافذة المطبخ المفتوحة، والبنات ذهبن إلى المدرسة، لم يتحرّر ذهني من الأفكار الشريرة والطيّبة معاً، ومن قوّة الرغبة المعسولة وضعف القدرة اللاسعة.
لم يبق من خاوماء إلا عظم محترق، والصغار وقعوا في الأسئلة: أين البلاد؟ لماذا الذبح؟ من أين يأتي العسل؟!
**
أقرَّ المشترعون العادلون بنداً عالميّاً للتعويضات، ثُمّ استودعوها في جرابِ حمارٍ، والأخير مربوط في زريبة امرأة تُدعى (أُمّ عَوِيْصَة).... وهَرّب مصدرٌ في لجنة التعويضات أنّ المُؤتَمِرين واجهوا مُعضلة في معرفة المستفيدين، وما زالوا في صلفٍ ومكرٍ فيما بينهم، وهم بفضل ربّهم يختلفون؛ فسلام على المتناحرين الغانمين؛ مثلاً: «لمن تُصرف التعويضات في حالة إبادة عائلة بكامل أفرادها؟» وأكمل المصدر:
«ثُمّ إنّ كلّ فريق حمّل الفريق الآخر مسؤولية المجزرة»
**
لم يبقَ أثر، والذي وقفَ وراء دكِّ المخيّم الأوّل ومسحه من خريطة الجنّة المحرّمة على سكّان المخيّمات، المطرودين من الرحمة، تولى حضرته الرئاسة...
والذي وقفَ وراء دكّ المخيّم الثاني ومسحه من خريطة الجنّة المحرّمة على سكّان المخيّمات، المطرودين من الرحمة، تولى حضرته الرئاسة...
لا مُصادفات في تاريخ المجزرتين، وفيما يخصّ المخيّم الثاني فإنّي شاهدٌ وحاضرٌ للإدلاء بشهادة تحت القسم.
النهرُ باردٌ، والزَّعْتَرُ اقْتُلِعَ مِنْ جذورهِ، والإبادة تمّت على المسمّى بارداً وباردةً، كاملاً وكاملة، وعلى مرأى من عيون قُضاة العالمين.
o تؤجّل مرافعات الجلسة الأخيرة إلى أجل مُسمّى، ولكلّ أجل كتاب.