القوائم بالأسماء والدرجات العلمية المزورة ومراكز العمل أصبحت في متناول الجميع للاطلاع، بما في ذلك المسؤولون منهم في الأجهزة الرسمية.
منذ عشرين عاماً على الأقل وأنا أتعجب من التكاثر البكتيري في المجتمع السعودي للدرجات العلمية العليا، وكنت على ثقة تامة بأنها لو صدقت (الدرجات العلمية) فإنها مجرد واجهات قرطاسية ناتجها الفكري لا يقدم، وبالأحرى يؤخر.
توصلت بالتمعن في الشخص ودرجته العلمية ومستوى أدائه، أن الموضوع بمجمله يصب (كمجهود علمي) في خانة التحوير والتدوير واسترجاع وجبات بائتة عمرها ألف سنة.
لكنني لم أكن أعرف أن انتشار الدرجات العلمية المزورة بهذا التغلغل في المؤسسات الرسمية الكبرى. حسب القوائم المنشورة، هناك شخصيات مركزية في التربية والتعليم ومجلس الشورى وتجمعات الدعاة والخطباء ونجوم الفضائيات، وبين المسؤولين عن إصلاح ذوات البين في المؤسسات الشرعية، وفي الشركات والبنوك، وباختصار في كل مكان تدر فيه الدرجة العلمية أموالاً ووجاهة اجتماعية معتبرة.
الموضوع يحتاج إلى تمعن هادئ في نفسية الشخص الذي يُزوّر ويغش في درجته العلمية ليحصل على مركز إداري ومكانة اجتماعية أعلى مما يستحق وهو يعرف ذلك.
الموضوع يحتاج أيضاً إلى تمعن في تركيبة الجهاز البيروقراطي الرسمي وغير الرسمي الذي يسكت على هؤلاء رغم انكشاف عوراتهم وسوآتهم.
الغشاش المتربع على منصب كبير لا يستحقه ويتمتع بوضع اجتماعي اعتباري، إنسان مريض منذ البداية، ويعاني باستمرار من نفس المرض النفسي أثناء مزاولة نشاطه الرسمي والاجتماعي، لأنه يحمل بداخله باستمرار معرفته الحقيقية بنفسه وبأخلاقه.
هو يعرف أنه غشاش وكاذب، غش أولاده وأسرته ومجتمعه ووطنه وحكومته، وأنه يتبوأ مسؤولية ليس أهلاً لها، لا أخلاقياً ولا علمياً. مثل هذا الإنسان لا يتوقع منه النزاهة والتجرد تجاه شؤون المسؤولية الموكولة إليه. سوف يستمر في الغش والتسلق والكذب على نفسه وعلى الجميع ويكون دائماً عرضة للابتزاز.
في علم النفس توجد أمراض عديدة من هذا النوع، منها مرض السرقة المادية رغم انتفاء الحاجة، ومرض الكذب والحنث بالقسم بدون دواع ضاغطة، ومرض الغش والتدليس منذ مقاعد الدراسة الأولى. مثل هؤلاء الأشخاص لا يصلون في المجتمعات النابهة إلى المراكز الحساسة بسبب تقارير الكفاية التي تتابعهم منذ البدايات الأولى. من يتسرب منهم إلى مكان لا يستحقه ما يلبث أن ينكشف بسبب ضعف القدرات وسوء الأداء.
الموضوع الآخر هو احتمال التواطؤ الرسمي والاجتماعي، والسكوت على هذه النماذج السيئة في الواجهات العليا للمجتمع. أسباب التواطؤ قد تكون من باب الوفاء للزمالة والصداقة والعيش المشترك، أو من باب الخوف من نبش أعشاش الدبابير السامة، ولكنه قد يكون أيضاً من باب التستر على الظاهرة لأنها قد تطال أعداداً أكبر من متسنمي الواجهات الاجتماعية، فيتحول الموضوع إلى فضيحة كبرى، محلياً وعالمياً.
في كل الأحوال لابد أن نعترف أن مجتمعنا يعاني من مرض المظاهر الكاذبة، بحيث أصبح ذلك من الممارسات المقبولة للوصول إلى الثروة والوجاهة والتظاهر بالصلاح والتحكم بأزرار المستقبل. أسوأ ما في الأمر أن التزوير في الدرجات العلمية موجود حتى بين من يتصدون ويتصدرون الوعظ والدعوة للصلاح ويملؤون بهديرهم أرجاء الفضاء وواجهات الصحف. اللهم إن الشكوى إليك.