تحتج بعض الوجاهة الثقافية والفكرية بنسب الأمية في الوطن العربي، باعتبارها تحول دون تحقيق الهدف الأسمى في حق التصويت والاختيار لمن يمثله في المجالس التشريعية والرقابية، والمؤسف أن هذا الرأي يصدر دون أي تمييز بين الأمية والتخلف إلا فيما ندر، فيصبح كأنه نعت للوعي السياسي العام بالتخلف وهذا ربما يحتاج مراجعة.
فالأمية وصف لأمة العرب حين بعث الله سبحانه وتعالى فيها رسولا نبيا، وقد جاء في الآية 2 من سورة الجمعة قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} والأميين مفردها أمي، وجاء تفسيرها على أنها تعني الذي لا يكتب، وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يقرأ ولا يكتب من الرجال لأمه من جهله بالكتاب دون أبيه !! على أنها في كل الأحوال تتوقف عند الوصف للجهل بالقراءة والكتابة، ولا تتجاوز ذلك إلى العلم والرأي والفكر، فكم من أمي لا يقرأ ولا يكتب هو خير وأفضل من حامل لشهادة الدكتوراه، ومن المعلوم إن مجتمع العرب في مكة المكرمة إبان البعثة المحمدية كان مجتمعا أميا، إلا أن ذلك لم يمنع من نجاح الرسالة وانتشارها إلى أقاصي الدنيا، والقصد إن الأمية أو الجهل بالقراءة والكتابة لا تعني قصورا في العقل أو الفكر في الرؤية والتدبير.
أما التخلف المعرفي والذي قد يكون قصد الاحتجاج والتبرير الذي يسوقه بعض المثقفين فهو القصور في الوعي العام، بما لا يساعد على تحقيق أهداف عملية التصويت والانتخاب، لكن غياب الفصل والتفريق بين الأمية والتخلف أوقع كثيرا من المثقفين ولا زال يوقع بهم في إشكالية قد تنال من قيمتهم الفكرية والثقافية ويحولهم دون قصد للتضاد أو التنافر مع راهن الوعي السياسي في المجتمع، وقد سمعنا مثلا في مصر الدكتور علاء الأسواني يعلن امتعاضه من نتيجة التصويت على الدستور المصري باعتباره حصل على أغلبية أمية حتى تجرأ ووصف الدستور المصري بدستور الأميين والجهلة، وأظهر رغبته في أن يقتصر التصويت على المتعلمين، وربما حاملي الشهادات العليا، وفي هذا تجنٍ استعلائي مقيت لا يصدر إلا عن عقلية منفصلة عن الواقع.
العجيب أن الدكتور محمد آل زلفه تناغم مع الأسواني في نفس الفكرة، وأعلن عن تفضيله لطريقة التعيين بدل الانتخاب لنفس التبرير، ولكن للحق بأسلوب أكثر تهذيباً وأناقة من سابقه، فهو يرى أن الشعب السعودي غير مهيأ للعملية السياسية، أي أنه لم يستلطف وصم الشعب السعودي بالأمية والجهل، كما فعل الأسواني، بل اختار أسلوبا أرقى، ولكن ربما يؤدي نفس الغرض.
هذه الفوقية والنظرة الاستعلائية التي تظهر أحيانا من بعض المنتسبين لنادي الفكر والثقافة في وسطنا العربي تتجاهل الفرق بين الأمية والتخلف أو تقفز عليها لتصنع لذاتها تميزا نخبويا عن محيطها العام، فرغم حمل الشهادات العليا إلا أنهم لا يرون للشعب حق إبداء الرأي بزعم الحرص على سلامة واستقرار النمو التنظيمي للمجتمع، من خلال إقصائه وإبعاده عن العملية السياسية، والحقيقة أن هذا تعبير عن رؤية أنانية لمصالح آنية، وبما يعتبر طبقية نخبوية ترى نفسها متقدمة على وعي عام تحسبه متخلفاً وتختار له وصف الأمية بدل التخلف للوصول الآمن أو الأسلم.
فمن خلال المجتمع الأمي انتشرت الرسالة المحمدية، ومن قبلها شيّدت الأمية الفرعونية مدنية لا زالت عجائبها المعمارية شاخصة حتى اليوم، أي أن الأمية لم تمنع الإنسان من استخدام العقل في الفكر والتدبر بينما رفض تخلف التزاوج الارستقراطي بين الثيوقراطية والبرجوازية في أوروبا ثورة الفكر التنويري وعاداها وحاربها حتى هزمته وجعلته من مخلفات الماضي، والمثير للعجب والاستغراب أخيرا نراه لدى هذا البعض المتناقض أو المتضاد فكريا على امتداد مساحة الوطن العربي في تيار التحفظ وتيار التحرر وتوافقهما في نفس الوقت على احتكار الفهم والاستهانة بالوعي العام ونعته بالأمية والجهل لإقصائه عن الوعي السياسي، ليظهر بشكل واضح مدى انفصالهما في بعض الأحيان عن واقع يكشف بصحوة وعيه الثقافي والسياسي العام عدم صحة هذا الزعم والادعاء، بل أن الوعي السياسي العام يظهر تقدمه في كثير من الأحيان بشكل واضح عن مستوى الوعي النخبوي الذي يعود ويتراجع بالاعتذار أو التبرير عندما يعود إلى الواقع بعقله.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni