الحمد لله القائل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، ها هي الفقيدة (أم إبراهيم) ترقد مع الراحلين في مقبرة الديرة في مسقط رأسها، حيث أبوها وأمها وأخوها وأختها، إذ لبت نداء مولاها في العناية المركزة بالمستشفى الجامعي الساعة الرابعة فجراً من يوم الثلاثاء وعمرها 71 سنة، وصلي عليها بجامع بن رخيص بالديرة، الذي كانت من ضمن من ساهموا من أهل البلد في تشييد المسجد باللبن والطين والقش والخوص وجريد النخل وكان نصيب النساء هو جريد النخل والخوص لسقف المسجد من كل الجيران (مرحلة التأسيس والنشأة).
جعل الله ما أصابها تكفيراً أو تمحيصاً ورفعة في درجاتها، والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً ابتلاه.. ومقالي هذا أكتبه بدموع عيني قبل حبر قلمي، وهو صادر عن القلب بمساعدة من جوارحي عندما نزل بي الهم وحل بي الغم، واشتد الكرب، فلجأت إلى الواحد الأحد الصمد، فارج الهم، كاشف الغم، وناديته سبحانه (لا إله إلا الله الحليم العظيم رب العرش العظيم رب السموات والأراضين) واسترجعت وحمدت الله، وتذكرت قول الحق سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.. وعندما هاتفني أخي ليخبرني بالخبر، اضطربت نفسي وارتجف فؤادي، واشتدت عبراتي، كيف لا والمصاب جلل والألم كبير، لكن بعد عون الله تصبرت، واحتسبت الأجر عند الله، وعلمت أنها وديعة خالقها أحق باسترجاعها.
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولابد يوماً أن ترد الودائع
وفي تلك اللحظات لم أجد نفسي فألم المصيبة ووطئها داخل قلبي عميق، عمق سنوات كفاحها وعطائها لنا ولوالدنا ولأجدادنا عندها تراجع بي الزمن إلى الوراء، حيث عبق رائحة تلك السنين الماضية، حينما كنا صغاراً نلهو ونلعب ونستمتع بالحياة، حياة الطفولة، حينما نشكو إليها ما نواجهه أو نصادفه في المدرسة أو من الجيران فكانت تغمرنا بمشاعر الصفح والعفو والرفق وكأنها تغرس في نفوسنا أخلاقنا عالية من العفو والصفح والتسامح.
هناك في (مقبرة الديرة) دفنت مشاعر وذكريات وتاريخ عمري الذي رأيته في كفاح أمي مع أجدادي ووالدي وإخوتي من بعدي، ومع الأرحام والجيران.. كل واحدٍ منا نحن الأبناء والبنات يجد تاريخه، ومكانه في فؤاد أمه، إنه الفؤاد الذي يسع مالا تسعه الأفئدة الأخرى، إن مكانتك في قلب أمك لا تتغير مهما كنت في نظر الآخرين ما بين غالٍ وجاف، كبرت أم صغرت، آه ما أطيب هذا الفؤاد الذي فقدته، عاطفة جياشة على مدى عمري، ونبع الخبير العليم إلا لعظمته {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} حينها تذكرت عندما يقف المصلون خلف الإمام في أثناء دعاء القنوت، فيؤمنوا على الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، وأن يرحم الله من كان منهم ميتاً ويمد في عمر من كان منهم حيّاً على من ير عملاً صالحاً، حينها يعتصر قلب كل مصلٍ، فهذا بار يريد المزيد من البر والإحسان، والتمتع بوجودهم ورؤيتهم، وذاك يتذكر أو يندم لشعورهم بالتقصير وقد يستجيب لمشاعره فتفيض عيناه بالدموع، وثالث وهو الأصعب لم ير أحدهما أو كليهما لأنه نشأ يتيماً، لكن الجميع قد توحدت مشاعرهم، فوداعاً يا أمي جسداً، لا أثراً لأن ذكراك ستزداد مع الأيام رسوخاً، وسيبقى ذكرك على لساني في كل دعاء إن شاء الله.
وداعاً يا أمي جسداً في البيت الذي تسكنينه، لكنك ستبقين ساكنة في قلبي دائماً ما دام يخفق بالحياة.
وداعاً يا أمي جسداً عن ناظري، ولكنك ستبقين في خيالي وأحلامي وذاكرتي رمزاً للكرم والجود والسماحة والصلة والعفو والتسامح.
لا يا أمي لا... ليس وداعاً، بل إلى اللقاء في جنة الفردوس إن شاء الله.. عند الرحيم الودود.
بدر إبراهيم محمد الوهيد - القصيم - المذنب