من تابع البرامج التلفازية في القنوات الرئيسة خلال الموسم المنصرم لم تفته الإشارة إلى أهداف الفتوح الإسلامية منذ بدايات انتشار الإسلام ممتدة في كل الاتجاهات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. كما لم يفت المشاهد الإشارة إلى حسن معاملة القادة المسلمين للمنضمين حديثاً تحت لواء الدين, وللذميين الذين اختاروا البقاء على دينهم. كان واضحاً أن مسؤولية القيادة والولاية في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- لم تعن التسلط والتسيد على ثراء الأراضي وكنوز الأرض لمطامح شخصية, بل عنت التأكد من استقطاب وعي الناس بالمساواة والعدل, وتجذير رضى الموالي عن النظام الجديد واطمئنانهم على سلامتهم، وتأمين راحتهم على اختلاف عقائدهم.
لم يستمر نقاء القصد في الولاية طويلاً وسرعان ما عادت العادات والموروثات الجاهلية من حب النفس وتفضيل الأقربين, ووجدت السياسة كوى تتسلل منها لتلوث مقاصد الدعوة التي جاء بها آخر المرسلين -صلى الله عليه وسلم- لتطهير المجتمع البشري من انحرافاته عن التعامل القويم.
وبين الرغبة في الحصول على موقع التسيد على الآخرين والاحتفاظ به, لا لمجموع المسلمين المؤمنين بل لفئة منه متسيدة على الآخرين, ضاعت في النهاية مكتسبات الأمة التي رفعتها مثالية المساواة إلى قيادة العالم. وسرعان ما فقدت قدرة الاحتفاظ بزمام منجزاتها: الريادة الحضارية والرقي العلمي واستقطاب الكفاءات المتميزة من المجتمعات الجديدة؛ وعاد الوضع إلى تنابز وتفاخر الجاهلية قولاً وتراجع الإنجاز فعلاً.
هذا التراجع إلى عادات واشتهاءات وممارسات ما قبل الرسالة حمل معه انشغال القادة والولاة بالدفاع عن موقع النفس ومتراكم الثراء والسلطة الحامية له ضد شر مترصد من مصدرين؛الأقربين والأبعدين المتطلعين إلى اختطافه. وفي الانشغال بالمحافظة على مواقع التحكم انحرفت الرؤية فلم تر الأفق الأوسع يتقلص إلى انحصار «الطوائف», والقوى المعادية للأمة تتسلل مقتربة تقضم أطراف الدول وتستغل أي موقع ضعف أنتجه التصدع داخلياً لتزرع موقع تأثير يؤجج الفرقة ويسرع التمزق.
تاريخنا واضح؛ جله قصر نظر وتركيز على مصلحة الذات بدلاً من مصالح المجموع. أحداث متكررة بدأت بعد الخلفاء الراشدين في مواقع كثيرة من أطراف الأمة كتراجيدياً يلعب بطولاتها قادة وحكام وشعوب تتصدع إلى فئات متناحرة بين فئة تجزم أنها مفضلة وفئات مضطهدة يقودها الشعور بالتحيز ضدها داخلياً إلى تآكل الشعور بالانتماء ويستقطب ولاءها الأعداء من الخارج. اليوم ما زال السناريو الفادح النتائج مستمراً بكل نتائجه القاتلة في كل موقع من عالمنا عربياً وإسلامياً. هكذا انساقت جموع منا، موتورة أو طامحة, إلى تفضيل خيار المواجهة والتصارع ما بين الطوائف الإثنية والدينية والمذهبية على خيار التعايش والتضامن والتكاتف معاً كمجموع متحد المصالح سياسياً واقتصادياً يتصدى للشر المترصد لمستقبل المجموع.
قامرنا بحاضرنا حين سمحنا بتسلل الفرقة إلى الصفوف وإضعاف قوة المجموع، والحقيقة أن لا غالب في مثل هذا الصراع، فهو تحول سرطاني ينتهي تصارع مكوناته بفناء الجسد كله.
وعلينا الآن أن نعكس هذا التوجه الانتحاري ونحقق الأمن والرفاه للجميع وليس لفئة تحلم بفناء الفئات الأخرى.