كانت أمّ الحفلات كلها. كانت حدثاً لم يسمع الناس بمثله.
إنها الحفلة الكبرى التي صنعها وزير المالية الفرنسي نيكولاس فوكيه للملك لويس الرابع عشر في القرن السابع عشر ميلادي ورغب أن يثير إعجاب رئيسه. دعا الوزيرُ الملكَ وعلية القوم إلى قصره وجهّز وليمة ضخمة فخمة تحدثت بها الركبان، فاحتوت على الطعام الفاخر اللذيذ والأصوات الجميلة والترفيه الممتع، وكتب الأديب الكبير موليير مسرحية فكاهية خصيصاً لهذه المناسبة. أقيمت المناسبة في قصر «فولو فيكومتي» الذي يملكه فوكيه وهو قصرٌ شاهق بديع يجمع بين التصميم الحسن والحدائق الخلابة صرف عليه فوكيه الكثير من المال فأضفى المزيد من التألق على تلك الليلة الساحرة. يا ترى، هل نال كل هذا استحسان الملك؟ أجل. لقد انبهر بها الملك، ولم يكن هذا أي ملك بل كان الملك الشهير لويس الرابع عشر والذي حكم فرنسا 72 سنة هي أطول فترة حكم أوروبية إلى اليوم، ورفع الملك اسم فرنسا عالياً بحروب كثيرة ودبلوماسية محنكة.
نعم، لقد انبهر الملك بما رأى، على أن هناك مشكلة واحدة لم يضعها فوكيه في الحسبان. بينما الملك يأكل أطايب الطعام وتُطرب أذنيه محاسن الأصوات أخذ يتأمل هذه المأدبة الهائلة، وبدأ الحسد يدب إلى قلبه! أغاظه أن رجلاً من رعيته لديه كل هذا، وكان قد سمع إشاعات تزعم أن فوكيه يسرق من المال العام فاقتنع لما رأى هذه المظاهر أو لعله استخدم هذا كذريعة ليزجّ بفوكيه في السجن، ولأنه لم يكن يملك دليلاً حاسماً على أن فوكيه سرق فإنه لم يقتله واكتفى بحبسه وقضى فوكيه في الحبس بقية عمره في عزلة تامة لقاء حفاوته بالملك وإكرامه. هذه من قصص التاريخ العجيبة التي ذكرها كتاب «أحسن القصــــص المجهولــة» للكاتب ريك باير، وسنتناول المزيد منها في مواضيع قادمة إن شاء الله، وأما لويس فلم ينته الأمر هناك بل جَمَعَ المصممين والمهندسين وأمرهم بتشييد قصرٍ أكبر وأحسن من قصر فوكيه، وهذا ما فعلوه لما بنوا قصر فيرساي المنيف الذي لا زال موجوداً إلى اليوم في ضاحية من ضواحي باريس وهو تحفة معمارية من ذلك العصر، وأما فوكيه فقد لاقى الذي لقي مُجير أم عامر! وكلمة «مُجير» تعني من يحمي رجلاً ويغيثه، فأجاره أي نَصَرَه وحرسه، وقصة هذه المقولة أنه خرج قوم إلى الصيد في يوم حار فبينما هم كذلك إذ ظهرت لهم الضبع وكانت العرب تلقبها أم عامر، فطاردوها ليقتلوها فهربت حتى ألجأوها إلى خيمة أعرابي فدخلت، فخرج إليهم الأعرابي فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صيدنا وطريدتنا. فقال : كلا! والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثَبَتَ قائِم سيفي بيدي! فرجعوا وتركوه، فقام إلى ناقة له فحلبها وقرب إليها اللبن، وقرب إليها ماء، فأقبلت الضبع مرة تشرب من هذا ومرة تشرب من هذا، حتى قويت واستراحت، فبينما الأعرابي نائم في جوف بيته إذ وَثَبت عليه فمزقت بطنه وشربت دمه وخرجت، فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة قتيلاً، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها، فقال: صاحبتي والله (أي هي التي فعلت هذا)! وأخذ سيفه واتّبعها فلم يزل حتى أدركها فقتلها، وأنشأ يقول:
ومن يصنع المعروف في غير أهله
يلاقِ الذي لاقى مجير أم عامر