في عام 1374هـ - 1954م كنت في السنة الثانية من المرحلة الدراسية المتوسطة في معهد عنيزة العلمي، ولمرحلة الصبا بالذات توهُّجها وانفعالاتها تجاه ما يحيط بالمرء من أحداث.
وكانت انطلاقة الثورة الجزائرية في ذلك العام مبعث أمل لي وللكثير من رفاقي أبناء أُمّتنا، التي كانت حينذاك تعاني صدمة نكبة قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين قبل ست سنوات من ذلك التاريخ. أجل. لقد كانت تلك الانطلاقة بمثابة إعلان واضح جلي بأنّ هذه الأُمّة ما تزال حيّة قادرة على إثبات وجودها رغم الصعاب.
وأتى عام 1955م لتزيد أحداثه ذلك الأمل توهُّجاً وتدفُّقاً. وكان من تلك الأحداث انطلاق سرايا الفدائيين الفلسطينيين من قطاع غزة عندما كانت تحت الإدارة المصرية لتقضًّ مضاجع الصهاينة المحتلِّين، ومن المرجَّح - بل من شبه المؤكَّد - أنه كان لوهج الثورة الجزائرية المجيدة إيحاؤها في انطلاق تلك السرايا الفدائية.
وكان من تلك الأحداث في ذلك العام، أيضاً انعقاد أول مؤتمر لدول عدم الانحياز في باندونج الأندونيسية، وكان في طليعة القادة في ذلك - إضافة إلى الرئيس سوكارنو رئيس أندونيسيا - فيصل بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية حينذاك، مُمثِّلاً للمملكة، والرئيس المصري جمال عبدالناصر، ورئيس وزراء الصين الشعبية شو إن لاي، والرئيس اليوغوسلافي تيتو، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو.
وكان لنهرو، خليفته القائد الفذ غاندي في زعامة الهند، ما له من نظرة ثاقبة، ولعلّ من أسباب الحديث عن شيء من هذه النظرة الثاقبة كتابة مقالتي هذا اليوم في جو انعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز هذه الأيام في طهران، وإنْ كان من المعلوم لدى الجميع أنه لم يَعُد لذلك المؤتمر ما كان له من أهمية. بل إنه أصبح جسداً بلا روح. كان مما قاله نهرو في أول مؤتمر لدول عدم الانحياز؛ مخاطباً رؤساء الدول والحكومات المشاركين في المؤتمر:
“تطلبون الاستقلال، حسناً، وتطلبون الحرية، حسناً أيضاً. سوف يعطونكم ما تطلبون، وسوف يُوقِّعون معكم على قصاصا ورق، ماذا بعد ذلك؟ سوف تتولّون المسؤولية، سوف تجدون أنفسكم رؤساء لشعوبكم. لديكم قصور رئاسة، ولديكم حرس، ولديكم سيارات رئاسة، وربما طائرات. ليس هذا هو المهم. هل ستجدون سلطة رئاسات؟ لست متأكِّداً. سوف تجدون لأنفسكم سلطة على رعاياكم، ولكن لن تجدوا لأنفسكم سلطة على غيرهم. رعاياكم سوف يطلبون منكم جوائز الاستقلال. من حقهم أن يتوقَّعوا تحسين أحوالهم بعد الاستقلال. فهل لديكم ما تعطونه لهم؟ أشك كثيراً. إنّ مستعمريكم السابقين رَتَّبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على الاستقلال، وأقاموا أوضاعاً جديدة تستبدل بأعلامكم القديمة أعلامكم الجديدة. ولكن هل سيغيِّر هذا من واقع الأمر شيئاً؟ إنكم سوف تجدون أنفسكم بعد الاستقلال في مشاكل حدود مع جيرانكم، خرائط معظم بلدانكم جميعها خرائط جديدة رسمها الاستعمار. وماذا ستفعلون؟ هل ستدخلون بعد الاستقلال في حروب مع جيرانكم؟ .. مع بعضكم؟ حسناً. وسوف نجد أنفسنا في سباق سلاح مع هؤلاء الجيران. سوف نصنع جيوشاً محلية. ولأنّ كل البنى الاجتماعية والاقتصادية لدينا هشَّة فإنّ هذه الجيوش سوف ينتهي الأمر بها إلى أن تأمرنا بدل أن تنتظر الأمر منا. إن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش، ولكن بالتقدُّم. التقدُّم هو وسيلة السيطرة الجديدة. أنتم مُتقدِّمون إذن فأنتم سادة. أنتم متخلِّفون إذن فأنتم مقهورون. مهما وَقَّعتم من قصاصات ورق، ومهما رفعتم من قصاصات قماش سَمَّيتموها أعلاماً”.
ما قاله ذلك الزعيم الهندي في المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز - قبل سبعة وخمسين عاماً - جدير بالتأمُّل؛ وبخاصة من قِبل من تابع مجريات الأمور في أقطار أُمّتنا العربية، وإشارته الثمينة إلى أنّ السيطرة الجديدة في العالم لن تكون بالجيوش، ولكن بالتقدُّم العلمي تدفع كاتب هذه السطور إلى ذكر نابغة من مسقط رأسي، عنيزة، هو الشيخ عبدالله الصالح الفالح، الذي تَغمَّده الله برحمته قبل شهور. فلقد كتب ذلك النابعة قصيدة جميلة متزامنة مع خطاب نهرو في ذلك المؤتمر. وكان قد ألقى تلك القصيدة في حفل إتمام بناء المدرسة السعودية الابتدائية في عنيزة ومطلعها:
طلع الصباح فهل دنوت إلى هُنا
لترى السَّنا الرفَّاف يهتف بالمُنَى
ومن أبياتها:
بالعلم يُحمَى يا بني وطني الحمى
لا بالسيوف - كما مضى - أو بالقنا
وهكذا كادت فكرتا الزعيم الهندي المشهور عالمياً والشاعر المحلِّي السعودي تكونان متطابقتين في قضية اجتماعية حضارية مُهمَّة. وإبداع ذلك الشاعر - رحمه الله -، في التعبير عن تلك الفكرة يُتوِّجه إبداعه في التعبير عن حبه لوطنه إذ قال:
بدمي .. بروحي افتدي هذا الثَّرى
أنا - دون مغناي المُفدَّى - من أنا؟
أبداً أنا الباكي إذا وطني اشتكى
وأنا الغنيُّ - ولو عدمت - إذا اغتنى
في مهجتي ألمٌ وفي قلبي أسى
حتى أرى وطني أعزَّ وأمكنا
كان ذلك الشاعر هو الأول على أول دفعة تخرَّجت من كلية الشريعة بمكة المكرمة. وكان من زملائه في تلك الدفعة الشيخ الجليل محمد بن جبير، رحمه الله تعالى.
وإني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنّ من هو في عظمة الفالح، تفوُّقاً علمياً ونبوغاً شعرياً، جدير بأن يُخلَّد اسمه بتسمية مؤسسة علمية أو شارع من شوارع وطننا، باسمه.
وخواطر كهلٍ مثل كاتب هذه السطور قد تكون، أحياناً “جادَّة غنم” تختلط اتجاهات تَحرُّكها، لذلك لا عجب أن تراه يسأل: هل كان يدور في خلد الزعيم الهندي، نهرو، حين قال ما قال في خطابه، الذي اقتُبِس شيء منه سابقاً، أنه سيأتي زمن يُرى فيه خلف أحد الزعماء الذين شاركوا في المؤتمر المذكور، وهو الزعيم السوري، يقصف المنادين من شعبه بالحرِّية والعدالة بالطائرات والصواريخ والمدافع، ويدك البلدان على رؤوس السكان، ويُقطِّع زبانيته الأطفال إربا؟ ولا عجب، أيضاً، أن تراه يسأل: لو وَجَّه من ارتكبوا تلك الجرائم الفظيعة قوّتهم الفتَّاكة لتحرير ما احتلَّه الصهاينة من أرضهم هل سيبقى المحتلُّون مطمئنين ينعمون بالهدوء والاستقرار؟ أجل. هي خواطر كهل. لكني آمل أن تكون مقالة الأسبوع القادم مختلفة عن مُجرَّد الخواطر. وفي رعاية الله.