تجتاح ذهني بين الحين والآخر ومضات من التأمل المشوب بالقلق حول حال الإنسان الخليجي المعاصر، كيف كان قبل أن (يلتحف) بسحابة النفط الغزير، وكيف آلَ تأثُّراً بها، ثقافةً واتجاهاتٍ وسلوكاً، ثم، ولعله الأهمّ، إلامَ سيؤول إليه هذا الحال بعد أن يغدوَ (ترفُ النفط) وثقافتُه رواياتٍ تُؤرخ وذكرياتٍ تُروى!
* * *
* كان إنسان الخليج بالأَمسِ يسْعىَ في منَاكِبِ الأرضِ هادئاً مطمئناً، يبحْث عن زادِ يَومِه ومَنْ يعول، لم يَكنْ يُهمَّهُ من أمُورِ الكَوْنِ شيءٌ سَوِى صَلتِه بَربَّه وأنْ يتفوق على شَبَحَ الفاقَةِ أو يؤجَّلهَ يوْماً.. أو بعضَ يَوْم! ورغم ذلك كان قَلبُه أقْوىَ إيمَاناً، وأنْدَى قَنَاعةً، وأقومَ بصيرة!
* * *
* وجاءَ النَّفْطُ إلى هذا الخليج، وكانت بداياتُه متواضعةً قبل أن يتدفقَ بكمياتٍ هائلةٍ ويُشغِلُ الخليجُ بسَببه أسماعَ وأبصارَ العالم بلا استثناء، هنا.. تبدَّل حالُ إنسان الخليج.. عظُم دخْلُه.. فَتَعاظَمْتْ حَاجَاتُه، نوْعاً وكمَّاً.. استيْقَظتْ في خاطره نزْعةُ الاستهلاكِ.. وغَريزةُ التَّملُّكِ وشَرَهُ البقاء!
* * *
* لم يَعُدْ يُعانِي محنةَ الجُوعِ، بل صار يشْكُو فِتْنَةَ الشَّبَع..
* باتَ التَّرفُ المسْرفُ أو الإسْرافُ المتْرَفُ عادةً يوميةً.. وطَبْعاً لا يَتَبدَّلُ!
* يُسْرِفُ.. إذا أكَلَ أو شَرِبَ! ويُسْرفُ.. إذا اكْتَسَى أو كَسَى! ويُسْرفُ.. إذا سَكنَ أو رَكِب! ويُسْرفُ.. إذا جَدَّ أو لَعِبَ!
* * *
* دعتْه شَهْوةُ النَّفْطِ إلى مَوائِدِ الحسَّ ليُنَادَمها بلا حِسَابٍ.. ولا تأَمُّلٍ لأَمْسِه الذي كان، ولا عبْرة لغَدِه الذي يجْهَلَ كيْفَ يُمكنُ أنْ يكون رأى في (تُخْمةِ) النَّفْطِ تَعْويضاً عن فَاقةِ الأمْسِ.. يومَ كان كلُّ شيءٍ نَادِراً وعَزيزاً!
* * *
* نعم.. تَبدَّلَ حالُ إنسان الخَليجِ.. غَرِقَ حسُّه في لُجة اليُسْرِ.. وغَار إحسَاسُه في قَاعِ التَّرفِ.. ضَعُفتْ أواصرُ ذَوِي القُرْبى.. وعزَّ الاتَّصَالُ رغْم تَوفُّرِ أدَواتِه وآليّاتِه!
* صار أحدُهم لا يَرَى أخَاه أو خِلََّه إلاّ بموْعِدٍ خَشْيةَ أنْ يُفسِدَ عليه بحضُورِه المفَاجِئُ سَكينةَ نفسٍ.. أو حَظوةَ خِلَّ!
* * *
* البعضُ الآخر فرَّقَتْهُم مسَافَاتُ الإثْرةِ والحَسَدِ.. وحُبُّ المال!
* غَدَتْ (المصلحةُ) ناموسَ الأفْرادِ.. بعد أن كان حُكْراً على السيّاسةِ وأهْلِها.. باتَ جَاهُ المرْءِ يُقَاسُ بمَالهِ لا بخُلقِه أو تَعامُلِه.
* لم تَعُدْ الأخلاقُ ثروةً في عُرْفِ البَعْض، بل ريْع الأسْهُم والسَّنَداتِ.. ومُضَاربَاتِ العقَارِ.. وعروضَ التّجارة!
* * *
* والأَمرُّ من ذلك كلَّه أنه نَشَأَ لدى البَعْضِ إحسَاسٌ غَريبٌ يُنفِّّرُ من هُوِيّةِ الأمْسِ بلْ ويُنْكِرُها.. بفَطْرتهِا وعُذْريّتِها ونَقَائِها!
* تحوّل إنسان الأمسِ في وجْدانِ البَعْضِ إلى مخْلُوقٍ (قَرَويَّ) القِيَافةِ والطَّبْعِ واللَّسَانِ.. حلَّ بَدَلاً منه إنسان النَّفْط (الملوّنِ) بأطْيافِ التَّرفِ البَاذِخِ.. طِبَاعاً وهيئةً ولِسَاناً!
* * *
* أجل.. لقد مسَخَ النَّفْطُ كثيراً من مَلامِح أمْسِنَا، وأبقْىَ لنا القَليِلَ من مَآثرِ النَّفْسِ ومحَاسِن الطّبْع.. وراحَةِ البالِ! كثَيرُون منّا دفَعُوا ثَمَنَ هذا التَّرفِ من أعْمَارِهم وأمْوالِهم وصَفَاءِ أنْفُسِهم، إلاَّ مَنْ رَحِمَ ربي ديناً وعقلاً وخُلقاً!
* * *
* وبعد... فأرجو ألاّ يُفسَّرَ هذا العرضُ بأنه (محاكمةٌ) للنفط و(جَلْدَُ) له، بل نحن البَشَرَ المعنييّن مَنْ يقفُ في قُفِص (الاتّهام) إن صحّ التعبير، وأختم هذا الحديثَ بهذا السؤال: ماذا أعدَدْنا نحن معشرَ جيلِ النفطِ الحالي لتَجْنيبِ الجيلِ القادمِ شرَّ النضوب المحتمل للنفط؟!