في السادس عشر من يوليو 1945، قام العلماء الأمريكيون بتفجير أول قنبلة نووية في موقع سمي «ترينيتي» في صحراء جورنادا القاحلة بولاية نيومكسيكو الأمريكية، وكان الانفجار مروعًا.
واليوم فإن مسرحًا جديدًا للحرب، وهو الفضاء الإلكتروني والعالم الرقمي للشبكات والحاسوب، قد بزغ في سرية تامة، بعد أن علمنا مؤخرًا تفاصيل هجوم فضائي أمريكي كبير على البرنامج النووي الإيراني، حيث قد تم إطلاق تلك العملية على ما يبدو في عام 2008. وكان السلاح هو: فيروس حاسوب ماكر سمي «ستوكسنت»، حيث اخترق حاسبات منشأة تخصيب اليورانيوم في إيران، وأدى إلى دوران أعداد كبيرة من أجهزة الطرد المركزي بصورة عشوائية مما أدى إلى تدمير نفسها ذاتيا، في الوقت الذي فشل فيه مهندسو التحكم اكتشاف أي شيء خطأ على الإطلاق.
وقد أوردت (نيويورك تايمز) أن الرئيس باراك أوباما أمر سرا بهذا الهجوم، والذي جاء كجزء من سلسلة من الهجمات الإلكترونية سميت بالاسم الكودي «الألعاب الأوليمبية». وقد كان أوباما، طبقًا لمشاركين في العديد من لقاءات غرفة العمليات لمهمة «الألعاب الأوليمبية»، على علم بأنه مع كل هجوم جديد فإنه يدفع الولايات المتحدة إلى آفاق جديدة، بالضبط مثلما فعل سابقوه مع الاستخدام الأول للأسلحة الذرية في أربعينيات القرن الماضي، ومع استخدام الصواريخ عابرة للقارات في الخمسينيات، وفي الطائرات المسيرة بدون طيار في العقد الأخير. ويبدو أنه قد عبّر عن مخاوفه بأن أي اعتراف أمريكي باستخدام الأسلحة الإلكترونية - حتى في ظل أضيق الظروف وأكثرها حرصًا - يمكن أن يسمح للدول الأخرى أو للإرهابيين أو للهاكرز بأن يبررون هجماتهم أيضًا.
وقد صرح أحد مساعدي أوباما قائلاً: «إننا ناقشنا تلك المفارقة أكثر من مرة»، وقال آخر إن الإدارة كانت تقاوم تطوير «أي خطط موسعة تبنى على أي أسلحة لا تزال قدراتها محل استكشاف»، ولكن أوباما خلص إلى أنه عندما يتعلق الأمر بإيقاف إيران، فإن الولايات المتحدة ليس أمامها خيار آخر.
وقد اختار أوباما الاختيار الصحيح، فشن عملية هجوم إلكتروني ناجح على إيران أفضل من إرسال قاذفات محملة بصواريخ كروز، ومن الواضح أنه كانت هناك هجمات إلكترونية أخرى، بما في ذلك حملة الفيروس المعقد المسمى «فلايم» أو «اللهب»، وقد أوردت الواشنطن بوست قائلة إن «ذلك الفيروس القوي استطاع أن يحدد سرًا أماكن شبكات الحاسوب الإيرانية ويراقبها، ثم قام بإعادة إرسال فيض متصل من المعلومات الاستخباراتية للتجهيز لحملة حرب إلكترونية». وقد ظهر هذا الفيروس على الواجهة الشهر الماضي بعدما استطاعت إيران أن ترصد هجمات متواصلة ومتتابعة على صناعتها النفطية. الولايات المتحدة الآن تخوض حربًا إلكترونية، بلا جنود على الأرض أو طائرات في السماء، فقط أرقام على لوحة المفاتيح.
وقد أعلن البنتاجون في العام الماضي أن الفضاء الإليكتروني أصبح ساحة حرب، وأنه بأهمية الدفاع عن أراضينا، ومياهنا وسمائنا وفضائنا، وقد قام مسئولو وزارة الدفاع الأمريكية بتوظيف خبراء حاسوب من الجامعات ومن شركات صناعة الألعاب الأمريكية لتطوير تقنيات إلكترونية في برنامج سمي بـ «الخطة إكس» بوسائل فيروسات تجسس متقدمة، بحسب الواشنطن بوست، والآن فإن كلا من روسيا والصين ودولا أخرى أصبحت تستعد لخوض المعارك الإلكترونية.
وبالمثل، فإن كل شيء يعتمد اليوم على أكواد حاسوب وعلى روابط شبكية أصبح عرضة للهجمات، مثل أنظمة الاتصالات أو الأقمار الصناعية أو الأنظمة الأمنية أو شبكات البنوك والقطارت ومولدات الطاقة وأنظمة المياه وشبكات الكهرباء.
لنتخيل حينئذ حجم الأضرار التي يمكن أن يحدثها المجرمون عبر الحواسيب، مثل اقتحام شبكات البنوك أو الصرافة أو كشف ملايين أرقام بطاقات الائتمان، أو سرقة الملفات الطبية وأرقام الضمان الاجتماعي، والآن السؤال: ماذا يمكن في المقابل أن يحدثه هاكرز موهوبون إذا شنوا عملية عسكرية لإحداث فوضى في مدينة أو على شبكة أمريكية؟
وفيما يلي نقاط بارزة في المعارك الإلكترونية القادمة:
- الحرب الإلكترونية هي حرب لا تماثلية، فالقوة الأضعف تستطيع أن تحدث ضررًا كبيرًا بقوة أكبر منها، فالقيادة المتقدمة للولايات المتحدة في تقنيات الدفاع ربما تساعد أو لا تساعد في تلك الحرب، فمجموعة من الهاكرز المهرة في أي مكان في العالم يمكن أن يشنوا هجومًا ناجحا.
- الهجمات الإلكترونية لا يمكن توقعها وصعبة التعقب، فالردع والانتقام غير مضمونين، لذا فإنه من المهم تطوير دفاعات قوية وهجمات ناجعة.
- بعدما ما شنت الولايات المتحدة قنابلها النووية الأولى، تعلمت دول أخرى بناء القنبلة، والأمر ذاته ينطبق على الحرب الإلكترونية، ولكن بوتيرة أكثر تسارعا؛ فكل هجموم ناجح يفرز خبرات جديدة لا تكون مقصورة على الهاكرز المهرة في الولايات المتحدة. حول العالم هناك هاكرز استطاعوا تفكيك وتحليل فيروس ستوكسنت، وأضافوا ميزات ماهرة على فيروسات من صنعهم، كما كتب سكوت كيمب على موقع علماء الذرة الأمريكيين، حيث يقول إنهم أصبحوا الآن جزءا من كتاب اللعب الأساسي، لذا فإن «الهجمات المشابهة لدودة ستوكسنت يمكن تكرارها وانتشارها على يد مبرمجين عاديين ولكن متخصصين، ولا يشترط لها نخبة من الهاكرز المبدعين، فالأمر أصبح بمثابة أنه مع كل قنبلة يتم إسقاطها، تسقط معها خطة عملها وتركيبها مباشرة أمام الجميع.
ويقول إخصائي أمني عالمي بكلية ودرو ويلسون للشئون العامة والدولية، أن الولايات المتحدة يجب عليها أن تستعد للدفاع عن نفسها، وليس للهجوم على الآخرين، مضيفًا أنه «بالنسبة للدول التي ليس لديها الكثير لتفقده في الجبهة الإلكترونية، فإن الهجوم بالنسبة لها يكون مغريا، مقارنة بالولايات المتحدة أو أي دول أخرى متقدمة تعتمد مجتمعاتها بصورة مباشرة وحساسة وعميقة على الحاسبات، فإن التوجه الآن هو توجيه الأبحاث الإلكترونية ناحية التطبيقات الدفاعية البحتة. فالتوجه البديل، وهو الاستمرار في شن هجمات إلكترونية طموحة، هو بمثابة عبور نقطة اللاعودة بسلاح غير مجرب، والبقاء عرضة لهجمات الأعداء والإرهابيين على حد سواء بصورة تامة الانكشاف.
ونحن نتوقع ألا يلعب الإرهابيون الإلكترونيون اللعبة باحترام لتلك القواعد أو أي قواعد أخرى على الإطلاق، والولايات المتحدة بالفعل عبرت نقطة اللاعودة، ولا تراجع في ذلك، لذا فإن الأمريكيين بحاجة إلى أسلحة إلكترونية رادعة ودفاعات منيعة للغاية للاستعداد للمعارك القادمة.
افتتاحية (شيكاجو تريبيون) الأمريكية