كنا لا نعرف عن ليبيا إلاّ ملك ملوك إفريقيا كما لقّب نفسه (العقيد القذافي). كانت هذه الدولة النفطية بالنسبة للمشرق العربي، وربما المغرب العربي أيضاً، قلعة مُصمتة، لا يطل من فوق أسوارها إلاّ القذافي وبنوه؛ فهو القائد الفذ، وهو المُنظر الفيلسوف، وهو السياسي المحنّك، وهو المؤرّخ، وهو الأديب القاص، وهو أخيراً ملك الملوك؛ وأبناؤه هم النخبة في كل شيء، من السياسة وحتى كرة القدم، مروراً بالتجارة وجني المليارات. لا أتذكّر أنني كنت أعرف وزيراً أو مسؤولاً ليبيّاً حينذاك غير القذافي وأبنائه، فالرجل خلال أربعة عقود قضاها في السُّلطة ألغى كل شيء، وغَيّر كل شيء، وعبث في كل شيء، وبقي وحيداً يُحلِّق مُنفرداً في السماء الليبية؛ فالسُّلطة له، والمال له، والإعلام له، والجيش له، والثقافة له، والأدب له، حتى (التهريج) له أيضاً.. وكل من فكّر - مجرّد تفكير - أن يتمرّد على سلطاته، أو ينافسه، فليس له إلاّ السجن والتعذيب هذا إن رأفَ به، أو الإعدام أن شكّ أنه (قد) يكون معارضاً سياسياً في المستقبل. كان - كما يقولون - يُصدر أوامر القتل والإبادة لجلاوزته هاتفياً وهو يُتابع فلماً أمريكياً: يتناول الريموت كنترول، ويُوقف الفلم، ويستلم المكالمة، ويُصدر الأمر بالقتل، ثم يعود ليكمل مشاهدة فيلمه دون أن يَرفَّ له جفن. وكان كل من حوله يرتعدون منه؛ فهو لا يُؤتمن مهما أخلصت لشخصه وتفانيت في الولاء له وخدمته؛ ولا يحتاج الأمر إلى أن تُخطئ وإنما تكفي وشاية من مُخبر، حتى وإن كانت كاذبة؛ فالشك لدى القذافي وليس اليقين كافٍ لتجريمك، ونقلك من فوق الأرض إلى تحتها.
هذه الدولة التي ظلّت أربعين سنة في هذه الأجواء الظالمة المظلمة تحت حكم هذا العقيد المجنون، كنا نظنّ أنها بعد التحرير ستكون مثل غيرها من دول الانتفاضات العربية، ستبحث عن (التقيّ الصالح الورع)، فتنتخبه دون أن تهتم بتاريخه وخبراته وقدراته على القيادة والتنمية واللحاق بالعصر، كما فعل المصريون والتونسيون وتقريباً المغربيون، غير أنّ (المفاجأة) أنهم اختاروا (القوي الأمين)؛ فانتخبوا (تحالف القوى الوطنية) بقيادة الرجل الكاريزمي المثقف محمود جبريل ليقودوا المرحلة، وتركوا أولئك الذين يُتاجرون بالدين ويجعلون منه جسراً للوصول إلى السُّلطة وراء ظهورهم. نحن نقول (مفاجأة) بينما الليبيون لا يرونها كذلك؛ فالوطنيون - كما يقول أحد الليبيين - هم من قادوا الثورة، ونظّموا صفوف المعارضة، وجابوا الدنيا، واستقطبوا الدعم الدولي الذي كان له الدور الرئيس في تحرير ليبيا من قبضة ذلك الوحش المجنون. ومثل هؤلاء لا بد وأن يكونوا قادة ما بعد التحرير؛ فالذين استطاعوا أن يُحققوا المعادلة الصعبة، ويتغلّبون على أعتى ديكتاتوريات العصر وأغناها، سيكونون أكثر الليبيين قدرة على قيادة السفينة إلى برِّ الأمان، فكان من الطبيعي أن يتولوا القيادة بعد النصر.
جماعة (الإخوان) الليبيون سيبقون في المعارضة في انتظار أن يُخفِقَ الوطنيون؛ فهذه الجماعات السياسية (طُحلبية) تعيش على الآخرين، أو بلغة أدق على أخطاء الآخرين؛ لذلك تحتاج من أجل أن تصل إلى السُّلطة أن يفشل من قبلهم فيهرب الناس إليهم لا حباً بهم، وإنما (نكاية) بالفاشلين، وبُغضاً في من قادوهم إلى الفشل التنموي. هذا سبب نجاح ثورة الخميني في إيران، وحماس في غزة، والغنوشي في تونس، وأيضاً الإسلام السياسي في مصر بعد تجربة العسكر الفاشلة والمريرة. نجاح الوطنيين في قيادة تحرير ليبيا فَوّت على (الإخوان) الفرصة، فلم يستطيعوا كغيرهم الوصول، لأنّ شرط الوصول لم يتوفر لهم كما توفّر لغيرهم.
بقي أن أقول إنّ أول المتضرّرين من فوز الوطنيين في ليبيا هم (الأمميون) الإسلامويون ممن فازوا بالسُّلطة في البلدان المجاورة لليبيا مؤخراً؛ فقد كانوا يطمحون لأن تكون ليبيا الثرية بنفطها منهلاً مالياً (إخوانياً) يغرفون منه ويصرفون على تجذرهم في بلدانهم باسم (ثروة الأمّة للأمّة) كما يُردّدون، غير أنّ فوز الوطنيين الليبيين سيضمن بقاء ثروة ليبيا لأهلها وليس لغيرهم.
إلى اللقاء.