يتمحور العنف الرمزي حول الاعتداءات الكلامية والإبعاد الخبيث للآخر، والنفي الماكر والمهذب له، والتهديد والتشهير. هذه الأساليب هي أكثر إيلامًا من أقسى العقوبات الجسدية، سواء في العمل أو في العائلة. بالإمكان تعريف العنف الرمزي بأنه عنفٌ خفيّ مُضمر، ومُستبطن ومُغلق، ويسعه، تاليًا، أن يُقيم في السلوكيات والعلاقات
الاجتماعية الأكثر سيولة واتصافًا بالعادية، على حدّ تعبير عالم الاجتماع الفرنسي (بيار بورديو).
العنف الرمزي هو أيضًا صنوف من التصرَّفات والأقوال والأفعال والحركات والكتابات، التي من شأنها أن تُلحق الأذى بالاتزان النفسي أو الجسدي لشخص ما، وأن تـُعرّض عمله وحياته للخطر، وأن تتسبّب بتعكير مناخ العمل وتسميمه.
على مستوى أماكن العمل نلاحظ ما يفعله المرء من خلال تهديم شخص ما، دون أن يفهم المحيطون به هذا الأمر، بإطلاق كلمات ظاهرها بريء، أو بإشارات مُرمّزة.
كرّست الإعلامية التلفزيونية الفرنسية (ميراي دوما) حلقة من برنامجها للحديث عن العنف الرمزي، فاستضافت عددًا من ضحايا الظاهرة، وعددًا من أرباب عمل ومسؤولين. رئيس بلدية اعترف بأنه ذو سلوك تسلّطي مُتشدّد، لكن العاملين تحت إمرته قالوا: إنه يتلذذ بتعذيبهم المعنوي، بالقيود والإهانات المتواصلة، إلى حدّ أنه يُبكيهم. أحد ضحاياه نال تقريرًا طبيًا بالتوقف عن العمل لمدة ثلاث سنوات، بسبب الانهيار العصبي الذي تعرّض له جراء ممارسات المسؤول الرعناء الفظّة. قال هذا الموظف ـ الضحية: إن رئيسه أمره بالضغط على السكرتيرة إلى حدّ إرغامها على البكاء العلني أمام جميع الموظفين، بدعوى أن النساء، بطبيعتهن، يرغبن بالبكاء.
أظهرت استطلاعات أن أكثر من مليوني فرنسي وفرنسية، أي ما نسبته 9 بالمئة من الفرنسيين، يتعرضون للاعتداء المعنوي والعنف الرمزي في أماكن عملهم.
تعرّف العلماء إلى مثل هذه الظاهرة، التي أسموها بـ»وفيات الفودو»، نسبة إلى قبيلة إفريقية. فعندما تريد هذه القبيلة التخلص من أحد أفرادها، تُطبّق عليه قانونها القبلي الذي لا يقول بقتل هذا الفرد بشكل مباشر، بل تعمد إلى طريقة غريبة تتمثِّل في مقاطعته وحجب العون عنه، ومُبادلته السبّ والشتم، إلى الحدّ الذي يجعله يشعر بأنه منبوذ مطرود من قبيلته، وبأنه ميت لا محالة. يُلاحظ، بعد يوم أو يومين، أن هذا الفرد المنبوذ من القبيلة قد فارق الحياة.
ذلك الاحتياطي الوحشي من الكراهية بين الذات والآخر تكوّن عبر العصور.
الإنسان، عمومًا، يتعامل مع الآخر، أي آخر، بأسلوب قطّاع الطرق.
إن أحد أسباب العذاب البشري يكمن في السقوط في سلة أكاذيب الأنا إزاء الآخر. وقليلون في العالم المعاصر يستخدمون قلوبهم وعقولهم معًا في التعامل مع الآخر.
كل الكلام والفعل ضد الآخر، مرَّ على جثثنا. وفي النهاية لا تبقى سوى الجثث. ولنعترف أن هذه الحالة أحدثت لدينا نزعة لا نهائية نحو الانغلاق. نغلق أجسادنا، ونغلق أرواحنا.. وننتظر.
Zuhdi.alfateh@gmail.com