ما يدفعني للكتابة والتطرَّق إلى هذا الموضوع هو ما شاهدته ورأيته من نشاط ملموس وفعل محسوس لبعض مديري البلديات في بعض الهجر والمدن الشمالية الذين يستحقون التصفيق والإشادة، فهجرة التمياط وهجرة الشعبة ومدينة العويقيلة أمثلة حية للفعل الحي والعمل الدؤوب والركض النشط،
لقد حوَّلوا هذه الأمكنة من صحاري جرداء جافة إلى أمكنة ضاجرة بالماء والعشب والشجر، وإلى أمكنة يندلق منها الصباح وتذوب فيها عتمة الليل، وتتشح برداء أخضر، وتضج باللوحات والأشكال الجمالية، وحتى الطرقات إليها غدت غير تلك الطرقات، وأنا الذي أعرف مسبقًا تلك الأمكنة كيف كانت فارغة ومفزعة وبها جفاف مرُّ وحصى ورمل وهياكل طرق وشح وعتمة وغبرة وتناثر بيوت، لكن كل ذلك تغير بفعل عزم شباب البلديات الجدد وحسهم الوطني العالي وأمنياتهم العظام ومخيلتهم الراقية، لقد احتضنوا تلك الأمكنة بأذرعهم وطوقوها بالحب ونثروا خيوط الفجر في فضاءاتها وزرعوا سقوفها قناديل مضيئة حاملين على أكتافهم عناوين التحدي وقبول التحدي، لقد رسموا لوحات مثلى لمشاهد تعبيرية مؤثِّرة حتَّى تراءت شاخصة في الأذهان للسكان وللعابرين مثلي، لقد حوَّلوا خيالهم الساخن إلى ذروة الفعل بكلِّ انثيالاته ومؤثراته، لقد صوّروا الحلم ورسموه ثمَّ حوَّلوه بتفاصيل لها حركات التنظيم والتبويب وفق معطيات العمل الإبداعي، إن للإبداع فعلاً تأثيريًا مهمًا في مخزون الذاكرة، لما يحتله من مساحات فارهة للدهشة والفرح والتخيل، إنها قصة سيمفونية العمل الجاد والابتكار الخلاب لهؤلاء الشباب الجدد، أن لهم في النَّفس ثمة بوحًا كبيرًا مغلفًا بالتصفيق والإطراء، ومؤطرًا برونق الإسهاب والقصيد الجليل، حيث لفعلهم الابتكاري وقع فاخر يقلب الذاكرة الشاحبة إلى ذاكرة طرية بفعل المؤثِّرات الغائمة والندية، حينما تجيء لتلك الأمكنة أو تمرّ بها بعد أعوام طويلة وأزمنة مديدة، كأن مشهدًا ما يتحرك داخل النفس، يجتاح المخيلة، ويضرب أطنابها، ويوقظ الهاجع فيها، ويوقد فيها فتيل الصحو، ويزيح عنها المنام، حيث يطيب الصحو، ويتحرك مشهد السفر إليها عبر السيارة التي تحوّل زجاجها الأمامي إلى شاشة عرض تتحرك فيها الذكريات القديمة، من أحداث وذاكرة طفولية، يوقظك من ذلك كلّه اصطدام طائر مفاجئ بالزجاج فتفجع لموته وتحزن وقد تسقط عليه دمعة حرى، لقد منحوني هؤلاء الشباب الجدد أشياء كثيرة من الزهو والعلو والتفرد بعد أن عزفوا طويلاً على قيثارة العمل الإبداعي حتَّى حوَّلوا الخردة إلى تحف فنية رائعة وجذابة، لقد قلصوا وقت الانتظار، ووصلوا إلى الهدف المنشود في وقت قياسي وموجز، بعد أن حشدوا الهمم، وأزاحوا خيام الكسل، وهدموا بنيان اليأس والنكوص، بمعاول الثقة والجلد، إنهم هم ولا أحد غيرهم، لقد أدهشوني حينمشاهدت حشدًا من العمل الجديد حسب مقدرتهم وتمويلهم وإصرارهم الكثيف، لقد فرحت بهم حتَّى اشرأب عنقي من بين الأكتاف، ومن ثمَّ جاءت الكتابة عنهم تقديرًا لهم وإشادة بهم حينما حوَّلوا الفراغات الترابية والنتوءات إلى لوحات مسترخية خضراء ومدهشة وبها نبض وحياة وجذوات متوقدة، إنها قصة شباب البلديات الجدد في الشمال الذين حوَّلوا الرمل الأصفر إلى ذهب، وذهبوا بنا إلى نصف الحلم، وسيأتون بالنصف الآخر بلا طوابع ولا حدود ولا استئذان.
ramadanalanezi@hotmail.com