تحدّث رجل أمام آخرين وأنا منهم في ظهر رجل غائب عنا وتربطنا به روابط عمل وبعضنا بصداقة, واستكثرت ما ورد على لسان المتحدث, إذ إني لم أعهد منه التصرفات والأعمال غير المقبولة, فحاولت أن أعرف عن صاحبنا شيئاً أكثر وأعم،
فإما أن استمر في صحبته أو ابتعد عنه بهدوء بعد تقديم النُّصح ما أمكن تلميحاً أو تصريحاً إنْ تأكد لي أنه كما قيل عنه, تتبّعت سلوك الرجل بعين المشفق المتوجّس, ولم أركن في هذا المسعى إلى أقوال وآراء آخرين، بل في هذه الحالة وأمثالها يُفترض الاعتماد على الرّصد الشخصي وتكوين أفكار معتدلة وقرارات منصفة, كنت أقترب من الزميل عبر الوسائل المعتادة, وباختصار وجدت الرجل كما توقّعت كريم المعشر لطيف الصحبة بعيداً عن الشبهات والترهات التي رُويت عنه, وتأكدت من نقاء الرجل حينما زرته في منزله بدعوة منه وهو لم يعلم أنني أتمناها وأسعى إليها, وفي ما نحن نتحدث عن هواياته وطريقته في استثمار أوقات الفراغ بأشياء محبّبة، منها أعمال خيرية لا تكلف كثيراً وفيها أجر وفير, أخذني لزاوية في فناء المنزل بنى فيها مطعماً للطيور العابرة من حمام وعصافير وغيرها, فقد جعل لها حاويات لطيفة مناسبة للحبوب التي يجلبها بالشراء وأخرى لبقايا الطعام المنزلي, إلى جانب ماء غير راكد يدور حتى لا يأسن ثم إنّ فيه إغراءً للطيور لتقع عليه في ساعات النهار الحارة جداً هنا في الرياض، فأيقنت أنّ الرجل كريم النفس وكبيرها في آن واحد, وأنّ ما قيل عنه لم يكن إلاّ نتيجة مروءته وإنسانيته وعدم انزلاقه مع ذاك الذي تحدث عنه في أمور تتنافى مع مبادئه الراقية، وبهذه المناسبة تذكّرت إحدى لطائف المرحوم بإذن الله الشيخ العلاّمة محمد العثيمين، فقد رُوي أنه كان من عادته أن يطعم قطة ألفت منزله ورحمته بها, وقالوا: إنها تترصّد له عند الباب الذي يخرج منه عادة, وأنه إذا كان مستعجلاً وسأل هل للقطة شيء تأكله الآن؟ وقيل له أن لا شيء جاهزاً, خرج خلسة من الباب الآخر حتى لا يشعر أنه خذلها, هذه خصال وشيم الكبار, عالم جليل بهذه القامة والقدر يرأف بقطة وجدت فيه ملاذاً بعد الله, وهو يخجل منها إن لم يقدم لها لقيمة تصبرها إلى حين الوجبة المنتظرة, لم يأنف من إطعام قطة, لم يرفع نفسه فوق ما تحتمل, هم العلماء وأصحاب الأنفس والقلوب الرحيمة, هم أصحاب العقول الزاخرة بالعلم والحكمة تنحني حتى لقطة ذات نفس رطبة يرجى أن يكون في إطعامها أجر فوق ما في الممارسة الراقية من ملامح إنسانية، تؤكد علوّ الهمّة والثقة بالله وبالنفس الزكيّة التي تسمو بصاحبها، وهو بخلاف رجل شاهدته متغطرساً يمشي كالطاووس ويركل بحذائه قطة كانت تعبر أمامه كما يركل اللاعب محمد الشلهوب (بثقة) ضربة الجزا, ولعلّ في غيبة أحدهم لصاحبه ما قاد إلى هذه الأفكار الإنسانية النبيلة الداعية للرأفة بالحيوان والطير, وأن لا نكتفي بالطرب مع هديلها وشقشقتها صباحاً ونسيانها عندما يشتد الهجير.
t@alialkhuzaim