تحشد المجتمعات البشرية بمرور فترات تاريخها المتعاقبة طاقات كبيرة في كبسولات رمزية؛ تصبح مع الزمن مصدر إشعاع وجاذبية وقوة.
وفي كل ثقافة وحقبة زمنية تتعدد تلك المسارب التي تفضلها الجماعات البشرية، والأفراد من بعد ذلك، لشحنها بمدلولات ذات فاعلية، وقيم ذات قدسية.
وقد تشعبت اهتمامات الشعوب الحديثة بقوالب الطاقة المتباينة الحجم والأهمية، لكن عدة حاويات تغلبت في أكثر مناطق العالم في القرن العشرين، وأصبح لها شيء من الجاذبية في البقاع العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
تلكم هي: الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة.
وقد أثبت التاريخ الحديث في أواخر القرن الماضي من خلال تساقط الأنظمة السياسية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي أهمية عمق الطبيعة الرمزية للإنسان.
فالمناداة بديمقراطية الحكم بين الفئات المختلفة لهذه الشعوب كانت تعني إنهاء حالة الحصار والكبت للحرية بوصفها رمزاً وقيمة متجذرة في التركيبة البشرية.
فممارسات تلك الأنظمة تتناقض مع مبدأ أن الإنسان كائن رمزي في الأساس؛ أي أنه كائن لا يقبل سحق مهاراته وإمكاناته الرمزية، طال الزمن أو قصر.
فحرية الكلمة وحرية الفكر تتمتع بمدلولات قدسية عند الإنسان؛ إذ إن الرموز هي مصدر التنوع والاختلاف بين الأفراد والجماعات البشرية، غير أن قيام الأنظمة السياسية الاشتراكية المنهارة بمنع حرية التنقل خارج الوطن وحرية الكلمة الناقدة والفكر المعارض أو المحتج..
كلها ممارسات عملية تتعارض مع المؤهلات التي يتميز بها الإنسان عن عالم الدواب وعالم الآلات ذات الذكاء الصناعي؛ وإقصاء الإنسان عن ممارسات حريته يؤول به في النهاية إلى تشابه كبير مع عالم الدواب والآلات.
وقد أدى ذلك التأطير للإنسان إلى إلغاء دور عالم الرموز أو تهميشه في التأثير في تشكيل السلوك البشري عند من يسعى إلى صناعة تلك الأطر.
وما الانتفاضات الشعبية ضد الطغاة في القديم والحديث إلا تصديق لمدى أهمية الذخيرة التي يمكن أن يمد بها عالم الرموز الجنس البشري؛ بحيث تصبح طاقات هذا الأخير تحدياً لأضخم قوة عسكرية يمكن أن يملكها الطاغية.
فقوة الرموز أو القوة المعنوية هي قوة هائلة لا يكاد يقف أمام جبروتها أي شيء مادي مهما كانت طبيعته القاهرة، إذ إن عنفوان هذه الطاقة التي يستلهمها الإنسان من عالم الرموز خفية وذات أثر مفاجئ وكاسح لا يشعر به المتعاملون مع عناصر العالم المحسوس، ومن هنا يأتي المدلول الميتافيزيقي لقيم الحرية والعدالة والمساواة..
بوصفها رموزاً قادرة على شحن الأفراد والجماعات بطاقات ماردة جبارة تشبه القوى الخفية غير التقليدية التي لا يستطيع أن يعترض سبيلها معترض. وهذا ما يوحي به بيت الشاعر العربي المعروف أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
فمصدر إرادة الشعب هي عالم الرموز: الدفاع عن الحرية، عن مبدأ المساواة والعدل والاستقلال واحترام الذات.. عندما يجمع الناس أمرهم على ذلك يصبح فعلهم كفعل القدر لا مرد له. وهذا ما يفسر لجوء الناس إلى الحديث عن المعجزات في بعض الأحداث الفردية أو الجماعية التي تدخل سجل تاريخ الأفراد والمجتمعات رغم عدم توفر المعطيات المادية لذلك.
فالأنظمة الشيوعية ذات الإحكام المتكامل انتهت بسرعة لا تصدق، عندما توفرت تلك القوة الرمزية.
والشيء نفسه حدث في ميادين القاهرة بعد ما أطلق عليه «معركة الجمل»، لكن الشعب المصري كان أقل شحناً من مثيله الأوربي. فالعملية تمر بمراحل ثلاث: تكوين الرموز الذي يستغرق أزمنة طويلة، ثم شحن تلك القوالب الرمزية بالطاقة، ثم الشخطة النارية.
الرياض