ها هو آذان الفجر يصدح في أجواء العاصمة الأردنية عمَّان، معلناً عن بزوغ فجر يوم جديد، وها هو (أحمد) كعادته اليومية يستيقظ ويتوضأ، ويذهب إلى مسجد الحي الذي يقطن فيه لأداء صلاة الفجر، ويستهل يومه بالدعاء: (اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز الكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال)،
ثم يسير في الطرقات الخالية متجهاً إلى حديقة الحي، حيث السكون وانبثاق أشعة الشمس الخجلى، وصوت العصافير المغردة، ونسمات هواء الصباح المنعشة الندية المحملة برائحة الخبز الشهية المنبثقة من المخابز الباكر عملها.
في تلك الحديقة اعتاد (أحمد) أن يجلس في كل صباح مستمتعاً بتلك الأجواء الروحانية التي تُورث النفس إحساساً بالسكينة والهدوء وصفاء الذهن التي قلما يدركها البشر بسبب ركضهم الدائم للحاق بركب الحياة.
هو يعلم أن وضعه المادي متواضعٌ جداً، وأنه لا يستطيع الاستغناء عن الجهد اليومي الشاق الذي يبذله لتأمين لقمة العيش، واستيفاء الديون والمتطلبات الضرورية جداً فقط، فليس لديه خيار غير الكدح والعمل، إلا أنه ومع ذلك لا يسمح للتقاعس، الشكوى، خيبات الأمل، أو حتى التذلل، أن تنال منه، بل يصر على شراء كرامته بعرق جبينه، متزوداً بجرعة يومية من الأمل والثقة برب العباد أنه لن يضيع أجر من أحسن عملاً.
التقط (أحمد) الجريدة اليومية من بائع الجرائد المتجول، وبدأ يتصفحها، ووقعت عيناه على القصة الآتية:
جلس رجل في صباح يوم كانوني بارد في محطة قطارات الأنفاق في العاصمة واشنطن، وبدأ يعزف على كمانه مقطوعات موسيقية لبيتهوفن. عزف الرجل لمدة 45 دقيقة، مرَّ خلالها آلاف الناس من هناك، أكثرهم ذاهب إلى عمله في زحمة الصباح.
بعد ثلاث دقائق ينتبه رجل في الخمسين من عمره لعازف الموسيقى الواقف يعزف على آلته، يخفف قليلاً من مشيته، ويقف لبضع ثوان ثم يتابع طريقه. وبعد دقيقة يحصل العازف على أول دولار ترميه امرأة في حاضنة الكمان، وبدون أن تتوقف ولا للحظة واحدة.
وبعد بضع دقائق، استند شخص على الجدار للاستماع إليه، لكنه بعد قليل نظر إلى ساعته وعاد يمشي من جديد. من الواضح أنه كان متأخراً عن العمل.
وأحد أكثر الذين أظهروا اهتمامهم بالرجل كان طفلاً عمره نحو ثلاث سنوات، يمسك بيد أمه ويسير بجانبها دون توقف، لكن نظره كان مع العازف، حتى وبعد ابتعادهم عن العازف مشى الطفل وهو ينظر للخلف، وقد حصل هذا الأمر مع العديد من الأطفال الآخرين. جميع الآباء - ودون استثناء - كانوا يجبرون أبناءهم على السير رغم نظرات الأطفال وانتباههم. وبعد مضي 45 دقيقة أخرى من العزف على الكمان ستة أشخاص فقط هم الذين توقفوا واستمعوا للعزف، ثم عادوا للسير على عجلة. نحو عشرين شخصاً قدموا له المال. لقد جمع 32 دولاراً حتى الآن. وبعد انتهائه من العزف عمّ الصمت في محطة المترو، لكن لم ينتبه لذلك أحد، ولم يصفِّق له أو يشكره أي شخص. لم يعرف المارة أن عازف الكمان هو جوشوا بيل أحد أشهر وأفضل الموسيقيين في العالم. وقد كان يعزف إحدى أعقد المقطوعات الموسيقية المكتوبة على الكمان في العالم، تُقدَّر قيمتها بـ 3.5 مليون دولار؛ حيث كان قد عزفها قبل يومين في قاعة ملآنة في أحد مسارح بوستون، وكان سعر البطاقة الواحدة 100 دولار أمريكي.
لقد عزف جوشوا بيل متخفياً في محطة مترو الأنفاق كجزء من تجربة اجتماعية قامت بها صحيفة الواشنطن بوست عن الإدراك الحسي والذوق والأولويات عند البشر. وكانت الخطوط العريضة للتجربة:
في بيئة عامة مزدحمة، وفي وقت غير ملائم، هل لدينا القدرة على استشعار الجمال؟ هل نتوقف لنقدّر الجمال؟ هل نستطيع أن نميز الموهبة في مكان غير متوقع؟
إذا لم يكن لدينا الوقت للوقوف للحظة، وسماع عزف أعظم موسيقي لأجمل مقطوعة موسيقية في تاريخ الفن، يا ترى كم من الأشياء الجميلة الأخرى التي نمر بها كل يوم دون أن نُعيرها أي اهتمام؟
انتهت القصة، وبدأ هدوء الصباح يتعكر بالضجيج، لكن سكون (أحمد) الداخلي لم يكن قد انحدر، وانطلق إلى العمل بعزيمة وإصرار ساعياً لطلب الرزق.
- الرياض