بعد أن فرغ الدكتور إبراهيم المزدلي من كتابه (تحليل طوبولوجي (1) لقصيدة أسفار الرؤيا) للدكتور عبدالعزيز خوجة: أصدر كتابه (شَهْد الوِصال)، ونَعَتَه بأنه تأمُّلٌ أسلوبي في مُطَوَّلات من مختارات (إلى مَنْ أهواه) للدكتور عبدالعزيز، وذكر ميزته على الدراسةِ السابقة على أن دراسته الأخيرة (طوبولوجية الوحدات المعجمية الأكثر دوراناً في النص)، وحدَّد منهجه الأسلوبي بأنه سيقف عند بُنْيَتَيْن لا غيرهما: (بنية الزمان) و(بنية الضمير).
قال أبو عبدالرحمن: هذا وَعْد بعلمٍ جديد لم تألَفْه ثقافتي؛ فأنا مُتَعَطِّش إلى نتائجه، هادف إلى أن أكون أول مستفيد من بركاته بالتتلمذ الأمين؛ فطالب العلم الجادُّ يشيخ ولا يشيخ تطلُّعه، بل يزداد؛ لأن ابن آدم مجبول على طول الأمل، ومِن طول الأمل عند ذوي الحرفة القلمية التطلُّعُ إلى نتائج ما هو جديد من المعارف والأفكار مع التَّحلِّي بالصبر والأناة؛ فأوَّل انفتاحٍ على دراسة الدكتور المزدلي التعريف بالأسلوب، وقد اقتضب تعريفات الأسلوب من لسان العرب لابن منظور، وثنَّى بثناء ابن قتيبة رحمهما الله تعالى على ميزة العارضة والبيان في لغة العرب نقلاً من كتابه (تأويل مشكل القرآن)، ثم ينقل عن رسالة الإمام الخطابي في الإعجاز - وهو من مُـحَقِّقي العلماء الذين تفرح بأصالتهم الفكرية، وتوسُّعهم في المعارف - قولَه رحمه الله تعالى: ((هو أن يجري أحد الشاعرين في أسلوب من أساليب الكلام، ووادٍ من أوديته؛ فيكون أحدهما بلغ في وصف ما كان مِن باله (2) من الآخر في نعت (3) ما هو بإزائه؛ وذلك مثل أن يتأمَّل شعر أبي داود الإيادي، والنابغة الجعدي في صفة الخيل، وشعر الأعشى والأخطل في نعت الخمر، وشعر الشماخ في وصف الحُمُر، وشعر ذي الرُّمَّة في صفة الأطلال والدِّمَن ونعوت البراري والقفار؛ فإن كل واحد منهم وَصَّافٌ لما يُضاف إليه من أنواع الأمور (4)؛ فيقال: فلان أشعر في بابه ومذهبه من فلان في طريقته التي يذهبها (5) في شعره)) (6)، ثم نقل نصاً من كتاب الباقلاني إعجاز القرآن، وهو مُجْمَل عن تَميُّز كلام الخالق عن كلام المخلوقين؛ وإنما فيه تقسيم مُـجْمَل أيضاً عن أنواع الكلام البديع المنظوم على هذا النحو:
1- أعاريض الشعر.
2- الكلام الموزون الغير المقفَّى (7).
3- أصناف الكلام الـمُعَدَّل الـمُسجَّع.
4- المعدَّل الموزون غير المُسَجَّع.
ثم ذكر لمحة من دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني هذا نصُّها: ((إن الأسلوب جزء من حركة صاحبه في وقت التأليف؛ فالناظم للكلام لا يكون ناظماً حتى يُعمل فكره لا محالةَ في وضع كل كلمة يجيزها من الأخرى؛ فالأسلوب خاصة من خواصِّ الشعر أو الكاتب، ولا يمكن أن تتكرر تلك الخواص)) (8).
قال أبو عبدالرحمن: هذا الكلام من كيس الدكتور المزدلي، وليس من كلام الجرجاني لا في دلائل الإعجاز، ولا في الرسالة الشافية، ولا في أسرار البلاغة.. ولم يكن (الأسلوب) من مصطلحاته، بل اصطلاحه عن نظم الكلام وخواصه وفوارقه، وقد احتفى بالفكر وتقديمه، ولا وجود لهذا التنصيص في كلامه؛ فهل تعمَّد المزدلي أن يتلاعب بعقول القراء، أو أنه نقل كلاماً لمعاصر أو مترجم عن عبدالقاهر غير مُحقَّق، ثم أحال إلى كتاب عبدالقاهر المفترى عليه مباشرة؟.. لا أدري!!.. ثم عَرَّج على كليمة للأستاذ أحمد الشايب عن مقوِّمات وضوح التفكير وجمال التصوير، ثم على كليمة مجملة لشكري عياد عن خضوع الأسلوب لتقاليد بلاغية قديمة، ولا مُدْرِك له في النقد الأدبي إلا الانفعال، ثم انتقل بنا إلى الأسلوب عند الأوربيين؛ فإلى موعد مع ذلك إن شاء الله.. وأما أنت يا معالي الدكتور عبدالعزيز فلا تستعجل؛ فلن يبدأ طرح المزدلي عن مختاراته من ديوانك (إلى من أهواه) إلا ببداية ص 30 من كتابه مع استطراد طويل يقتضي مني معاناة شديدة لارتباط النص الشعري بأسلوبيته الخواجية، ثم أنفذ من الأغوار إلى استجلاء القيم الفكرية والجمالية برؤيتي الخاصة، وما أنا بمستعجل؛ فلنصبر إن الله مع الصابرين.
بَعْضُ جفاءِ العشاق فضيلة:
لا ألوم حاضرَ بن حُضَيِّر العازمي في قوله: (أحْسِبِهْ وَحَش ما صيد قبلي بالدَّرَكْ والحبايلْ)، والبيت الذي بعده؛ لأنني لا أميل لغير الحب العذري عند العرب والرومانسي عند الخواجات، وهو عَقْدُ وفاءٍ بين الطرفين؛ فإذا كان المحبوب رابضاً في شَرَك الْقَوبَع فالبعد عنه رجولة ووفاء.. وقصيدة حاضر هذه من الألحان الطويلة جداً، وقالب اللحن على وزن (فاعلاتن - فعولن - فاعلاتن - فاعلاتن - فعولن) للشطر الواحد، وقد استفاد هذا اللحنَ أمثالُ حاضر وابن شريم وابن دويرج وأحمد الناصر ولويحان من شعراء الحجاز أمثال (المولَّد).. وليس هو كالشعر السطري عند الحداثيين، بل له قفلة بقافيتين، وخلال الشطر الطويل وقفات مضبوطة المسافة زماناً والمكان ترتيباً.
قال أبو عبدالرحمن: نُشِر لحاضر شعر يسير، ولديَّ له قصائد لم تنشر سأفرِّقها إن شاء الله في مناسبات ما، والقصيدة نشرت مصحَّفة محرفة (9)، ورويتها عن أحمد الناصر وسمعتها بصوته، وكان ديوانه مخطوطاً لدى الشيخ محمد ابن يحيى، وناولني الشيخ ابن يحيى رحمه الله تعالى هذه القصيدة مكتوبة بخط يده.. قال حاضر:
أمسِ عصرَ الخميسْ امسيتِ
مكتالٍ من الغيظِ شايلْ
ياللهْ العافيةْ اِثْرَ الغضبَ
المشحونِ يظهرْ كنينهْ
غاظني صاحبي بيَّن
لي الجفْوَى بليَّا فعايل
عِقْبِ ماني صحيبْ اَصْحَبْ
زَوْدِهْ واعتِدي معتدينه
لا نوى بالحرابةْ واعتداني
حربِ صدقُ وْصِمايل
كنِّ لا جيتهْ امشي
يرشقني رصاصَ المكينة
غاظني صاحبي والغيظِ
شالِ حمودِ عن قصرِ حايل
شدِّ عن ديرتهْ ثمَّ
انتزحْ بمحرِّمهْ للمدينة
عافِ حكمَ الجبلْ والجيشْ
الحمرْ والخيلَ الاصايل
وانْكرَ الدارِ يومِ انِّهْ سِمَعْ
بعضَ العربْ منكرينه (10)
كيفِ ينكرْ بلادهْ واتغالَى
في خبيثَ الدغايل
عقبِ ما شفتِ مابيْ لهْ
منافعْ لا نِفَعْ والدينه
احسبِّ اَنهْ وَحَشْ ما صيدِ
قبليْ بالدَّركْ والحبايل
واثْرِ صيادةَ القوبعْ رديَّ
الملزمةْ صايدينه (11)
احمدِ اللي ملا قلبي
ببغضهْ عِقْبِ هاكَ الهوايل
كنِّهْ اليومِ من يامَ الحِداريَّةْ
وانا من جهينة (12)
قال أبو عبدالرحمن: لا علاقة لنزوح الأمير حمود رحمه الله تعالى بغيرة حاضر بن حضير إلا بجامعٍ بعيد جداً، وهو أن الغيظ عن أنَفَة (الطَّنْيَة) يرخص معها كل شيئ.. وفي رواية (صحيب اصحاب زوده)، وفي رواية: (أصحاب زوله)، والأبلغ عندي: (اَصْحَبْ زوده) بمعنى أخضع لتعاليه؛ وذلك بدلالة (اعتدى معتدينه) بمعنى أعادي مَن يُعادونه، ورواية (اصحب زوله) هي المشهورة، وهي صحيحة، والصمايل جمع (صَمْلة)، وهي الصمود، والدغايل الأمور الخفية، و(ما بي له منافع) بمعنى لا أريد منه ما ينفع، و(لا نفع والدينه) دعاء عليه بالعقوق.. والوحش الطير الجارح (الصقر) الذي يصيد لنفسه، ولم يقع على يد صقار؛ لأن الصقار لم يطرحه.. وفي عُرْف الصقارين فالوحش الطير الذي طُرِح وأخذ الصقار يُدَرِّبه، ونقيضه (البيتي) الذي يُقَرْنسه الصقار، والوحش هنا كناية عن النفور من الرذيلة عِفَّةً وعدمَ أُلفة، والملزمة عرف على ميثاق الصداقة والأُلفة؛ لأنه حق لازم، وصيد الوحش صعبٌ جداً، وصيد القوبع سهلٌ جداً؛ فلما كانت صاحبة حاضر سهلة المنال يطرحها كل قانص كما يُصطاد القوبع زهد فيها.
رسالتي للدكتور الخويطر:
(أَسْرِعْ بالـمُذكرات):
قال أبو عبدالرحمن: أيها الأب الكبير: إن صيغة (اِفْعَلْ) رجاءٌ لا أمرٌ.. هكذا وضْعُها في لغة العرب إذا جاءت الصيغة من مثل العبد الضعيف (الظاهري) إلى الوالد الجَبْهَة كمعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وقد قال مُعَلِّمي - بعد الله - الإمام أبو محمد ابن حزم رضي الله عنه: ((وذلك أن الأمر ينقسم أقساماً: منها الواجبُ الملزِمُ، وهو عنصر الأمر الذي لا ينتقل عنه لفظ الأمر إلا بدليل برهانيِّ.. ومنها المحضوض عليه غير الملزم، ومنها المباح، ومنها المسموح فيه، وهو الذي تَرْكُهُ أفضلُ.. ومنها التَّبرؤ كقول القائل (اعمل ما شئتَ)، ويكون الآمر غير راضٍ عن المأمور.. ومنها الوعيدُ كقوله تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (40) سورة فصلت، ومنها: القَسْرُ كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (49) سورة الدخان، ومنها تقريرٌ كقول المعصيِّ: (قد نهيتك فاصبر واحتملْ ما أتاك)، ومنها تعجيز؛ كقوله تعالى {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (50) سورة الإسراء، ومنها ما هو بمعنى الدُّعاء [أي عليه لا له] كقول القائل (ابعد) [و] (اخسأ)، ومنها زجر كقوله تعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا} (108) سورة المؤمنون، ومنها تكوين وليس هذا القِسْمُ إلاَّ للباري تعالى وحده في أمره ما يريد أن يكون بالكون، وما يريد أن يُعْدَمَ بالتَّلف.. ومنه أمر بمعنى النَّهي كقول القائل - لمن تقدَّم نهيه إياه عن شيئٍ (افعله وسترى ما يكون) أو (وأدري أنَّك رجلٌ) وما أشبه ذلك، ومنها أمرٌ بمعنى التَّعجُّب كقولك: (أحسنْ بزيدٍ).. أي ما أحسنه)) (13).. وفاته في هذا الموضع ولم يَفُتْه في مكان آخر الأمر من الأدنى إلى الأعلى بمعنى الدعاء من الخالق، أو الرجاء من المخلوق.. وكل مواد (وسم على أديم الزمن) فهارس مذكرات وليست مذكرات مسلسلة الزمان والمكان تظهر فيها المعلومات في إطار مشاعر الكاتب وفكره.. ومع هذه ففيها وجبات سريعة من المذكرات، وقبل التعريج على شيئ من ذلك أذكر خلال تجربتي ثلاثةً من المصادر تُثري شخصية المتلقِّي، وتشحذ تطلُّعه، وتُذْكي فكره، وهي:
المصدر الأول: المذكرات والسير الشخصية يسمونها الذاتية - ولا سيما من ذوي المسؤولية، ومن ذوي المعاناة الثقافية -.. وتحفل مكتبتي بنماذج ثرية من آثار العرب والخواجات تُوَسِّع آفاق المتلقي فيما قرأه سابقاً، وربما صَحَّحتْ أخطاء تاريخية وعلمية وفكرية أو العكس بعد الإحاطة بميول الكاتب وأهوائه، أو صدقه وإنصافه.
والمصدر الثاني: الرحلات - ولا سيما العلمية كرحلة ابن رُشيد، ودعك من الرحلات العجائبية الكذوبة كرحلة ابن بطوطة -، وهي باب من المذكرات إلا أن له ميزة خاصة.. وفي نصاب ذلك الفهارس والبرامج والأثبات التي تَتَّسع في التعليق والإضافة.
والمصدر الثالث: تحشيات العلماء المتأخرين على المتون، والتحشيات على التحشيات.. إلخ كالتحشيات على كتاب التبريزي في البلاغة، وعلى تفسير البيضاوي، وعلى كتب الفروع الفقهية الجامدة؛ فتظفر منها بنفائس علمية ليست من صميم مادة الكتاب الـمُحشَّى عليه.. وفي حكم ذلك الكُنَّاشات وكتب المتفرِّقات الثقافية، وكتب (الجامع) التي يختم بها فقهاء المالكية موسوعاتهم الفقهية، وقلَّدهم الإمام ابن حزم في ذلك.. ومن مفاتيح الوجبات السريعة للمذكرات ما يُصَوِّر صَبْر ومعاناة دولتنا على كيد المفسدين في الأرض كما حصل من القذافي؛ ففي المجلد الخاص بذكريات عامي 1404و1405هـ قال: ((خاطبني يوم الأربعاء معالي الأخ محمد بن عبدالله النويصر رئيس الديوان الملكي، ونقل لي رغبة جلالة الملك رحمهما الله [تعالى] في أن أذهب إلى ليبيا للمشاركة في احتفالات عيدهم الوطني، فطلبت التلطف بإعفائي من القيام بهذه المهمة، لحالة ركبتي الصحية.. وحمدتُ الله على أن الله أوجد لي سبباً مقبولاً؛ لأن المشاركة في مثل هذه الاحتفالات في ليبيا متعبة جداً حسب تجربة لي سابقة عندما سافرت بصحبة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وقد وصفت المعاناة التي مررنا بها.. واخْتِير معالي الأخ محمد إبراهيم مسعود ليمثل المملكة في هذه المناسبة، وقد قام بالمهمة، ولعل من نتائج هذه المشاركة أن الرئيس الليبي ذكر في خطابه أن يلتزم الحجاج الليبيون بالهدوء في الحج، ومع هذا فإنهم في اليوم السادس من شهر ذي الحجة خرجوا بمظاهرة؛ لأن هذا اليوم يوافق يومهم الوطني، وقد قامت الشرطة بتفريق المظاهرة، وكان ذلك كذلك هو يوم دعوة جلالته لرؤساء الوفود القادمة للحج كما هو المعتاد في كل عام)) (14).. وذكر اجتماعاً كان عضواً فيه أُلغي.. قال: ((ولكن هذا الاجتماع أُلغي؛ لأنه طرأ اجتماع برئاسة جلالة الملك في جدة في قصر جلالته؛ للنظر في أمرٍ طارئ، وهو قدوم أربع طائرات من ليبيا، ومع بعض ركابها مسدسات وخناجر مخبأة على أفخاذهم؛ فلم يُسْمَحْ لهم بالنزول، وأعيدوا من حيث أتوا.. وبُحِثَ أَمْرُ سفينة قادمة وبها منشورات، وأعيدت من حيث أتت، وكان جميع الوزراء حاضرين في هذا الاجتماع)) (15)؛ فتوحيد مثل هذه الأحداث في سياق واحد بترتيب زمني مع المداخلة والرُّؤْية هو المذكرات المنشودة، ولست أُكلِّف الدكتور بأن يكسر حاجز القاعدة العاقلة: (ما كل ما يُعْلَم يقال)، ولكنَّ ما لا يال اليوم قد يُقال غداً، ومنطق الزمان والمكان في تغيُّرٍ دائم.. كُنَّا نقرأ مناجاة القمر للشاعر الحجي رحمه الله محذوفاً منها بيتان بمنطق رقابة المطبوعات، ثم قرأناها كاملةً بمنطق رقابة المطبوعات أيضاً.. وهكذا حديثه عن زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لما كان ولياً للعهد لمبنى رئاسة مجلس الوزراء، وما دار في اجتماع الوفدين، وما جرى من معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري رحمه الله تعالى خلال الحديث عن العالَم الخارجي وصلته بالشرق الأوسط - الذي أصبح اليوم حريق الدار، عارياً من كلِّ مُقوِّمات الدفاع عن النفس، ودعك من وحدة الصف -؛ فقد ذكر أن الحديث مع أصدقاء؛ فكان هذا داعياً التويجري إلى الإسهاب بصراحة (16)، ونحن نتعطَّش لهذا الإسهاب، وإلى الإلمام بعناصره لعلنا نرى فيه رؤية مستقبلَة من غير كسرٍ لحاجز (ليس كل ما يُعلَم يُقَال).. وهكذا ما يتعلق بالاقتراح الذي رفعه معالي الدكتور للمك فهد رحمه الله تعالى متضمِّناً حال الطلاب الذين لا تصل درجاتهم إلى المستوى المطلوب بأن يوجهوا للتعليم الفني أو العسكري مع النظر في تضخُّم بند المكافأة في الجامعات للأقسام الأدبية (17)، والآن مَرَّت ثلاثة عقود حصلت فيها تغيُّرات حول هذا الموضوع - ولعلها إن شاء الله إلى أحسن -، ومعاليه بلا ريب عضو في صُنْعِ كل القرارات حول هذا الموضوع، والمذكِّرات التي أعنيها تفي بكلِّيَّة الحدث على المدى.. ولي مع كتب معاليه مداخلات متفرِّقة كأفاويق الناقة؛ لأنني جُبِلْتُ على الملل من الرتابة في موضوع واحد.
الرومانسيةُ جمالٌ وجدانيٌّ إلا عند الخَلِيِّ:
قال أبو عبدالرحمن: الخَلِيُّ ذو مُضْغة اسمها القلب بين الحنايا لم يرفرف عليها شيئ من أشواق الروح القَسْرِيَّةُ أو الاضطرارية.. وهو يوصف بالخليِّ، والمتخثِّر، والجلمد، وليس عنده من طبع الأديب شيئ !!.. وقد أعاذ الله علماء أهل الظاهر من هذه الخصلة الجلمدية منذ محمد بن داوود.. إلى منذر بن سعيد.. إلى الإمام أبي محمد ابن حزم.. إلى ؟؟؟.. الله أعلم رحمنا الله جميعاً.. وأمتع ما في جماليات الشعر ما كان رومانسياً، ثم يتألق إن صحبه شدو فكري يرفعه عن (محضيَّة الفن)، ولم يدرك الظاهريون الأوائل سوى الحب العذري، ولم يدركوا ما استجد من الجمال الرومانسي، ولو أدركوه لعزَّ النظير من تحْليقهم الجمالي والفكري، وفي الرومانسية يتمازج الزمان والطبيعة والموجودات في عناق لذيذ كقول جورج جرداق في مقطع من (هذه ليلتي)؛ ففي ذلك المقطع تتألق القصيدة جمالياً بفعل الإيقاع العابر لجمال الألفاظ في شدوٍ أحاط به عبقريتا المؤدي والملحن.. إلا أن في الشعر جمالاً يتعايش معه الفكر المتأمِّل؛ فيحتاج تكثيف الجمال إلى قراءة الشعر قراءة هادئة بعد السماع المجنِّح.. مثال ذلك من أمثلة كثيرة المقطع الذي ذكرته، وقد غنت به (الست) من مقام كرد بتلحين السنباطي:
يا حبيبي طاب الهوى ما علينا
لو حملنا الأيام في راحتينا
صدفة أهدت الوجود إلينا
وأتاحت لقاءنا فالتقينا (18)
في بحار تئن فيها الرياح
ضاع فيها المجداف والملاح
كم أذلَّ الفراق منا لقاء
كل ليل إذا التقينا صباح
يا حبيباً طال فيه سهادي
غريباً مسافراً بفؤادي
قال أبو عبدالرحمن: هذا نفس كنائي إيحائي بالصور لا يوجد في تراثنا ألبتة بهذا التدفُّق.. تأمَّلْه وستجده تجسيداً وتكثيفاً للَحظةِ اللقاء، وأنها تساوي العمر(حملنا الأيام في راحتينا)، و(أهدت الوجود إلينا).. وكما هي تساوي العمر فإن فيها شفاء لكل آلام العمر الذي صفته: (بحار تئن فيها الرياح).. مع الضياع في البحر، وههنا لا ترى شائبة من الشَّبق الشهواني؛ وإنما هو تناغم بين الطبيعة والأرواح وذلك أخفُّ من الحبِّ العذري الذي يستبيح ما فوق المئزر.. قال الإمام الثقة الصدوق الأصمعي رحمه الله تعالى: قلت لأعرابية: ما تعدُّون العشق فيكم ؟.. قالت: العناق، والضمة، والغمزة، والمحادثة.. ثم قالت: يا حضري: فكيف هو عندكم؟.. قلت: يقعد بين شُعَبِها الأربع، ثم يجهدها!!.. قالت: يا ابن أخي: ما هذا عاشق.. هذا طالب ولد!!)).. وأما البيتان الأخيران فموضوعهما آخر، وهما جميلان في نفسيهما ولكنهما نشاز في هذا السياق وكررَّتْ (الست) لقاءنا؛ فكان ذلك زيادة على وزن الشطر، وليس هذا بمخلٍّ لا لحناً ولا وزناً؛ فانتفاء الخلل في اللحن بسبب ثبات المكرَّر بقياس زمني أضفى على عموم اللحن زيادة أنغام تُصَوِّر التلذذ باللقاء، وأما انتفاء الخلل في الوزن فهو تابع لانتفاء الخلل في اللحن، ولهذا كان شعر التفعيلة قابلاً للغناء وإن لم تتساوَ الأشطر ما ظل القياس الزمني، والترتيب المكاني موجودين مع استقرار الوحدة اللحنية وإن تعدَّدت الألحان في القصيدة الواحدة.. وإلى لقاءٍ قريبٍ إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
الحواشي:
(1) الطوبولوجيا علم الفضاء، أو علم المكان، والمصطلح كلمة يونانية (من topos وتعني مكاناً وlogos تعني دراسة) أي دراسة المجموعات المختلفة التي لا تتغير طبيعة محتوياتها.. قال أبو عبدالرحمن: ثم صارت في الاصطلاح السيميائي تعني الاستنباط من المسكوت عنه في النص (فضاء النص).. وانظر عن استعمالاتها موقع موسوعة المعرفة الإلكترونية، وموقع موسوعة ويكبيديا الإلكترونية، وقد ذَكَرا الطوبولوجيا في الأعمال الفنية والأدب مشيرين إلى بعض أعمال م.ك.إشر توضح مفاهيم طوبولوجية، وإلى مثل شريط موبيوس والفراغات non-orientable. كل من Philip k.Dick`s A Scanner Darkly وثلاثية روبرت أنطون وِلسون قطة شرودينـكَر يذكران أفكاراً طوبولوجية.. قال أبو عبدالرحمن لو ترك المزدلي التَّحَوُّجَ، وقال: (فضاء النص، أو المسكوت عنه في النص)، ثم جعل بين قوسين الكلمة الخواجية (الطوبولوجيا): لكان ذلك اعتزازاً بلغة العرب التي فيها البديل عن مسألة نظرية أدبية، وليست عن اختراع مادي؛ فيكون المخترع أولى بالتسمية.. ولكان في ذلك البُعْدُ عن التمعْلُم، ولكان في ذلك المنفعة لمن لا يجيد لغة ثانية، ولكنها سنة الله الكونية التي أخبرنا عنها بقضائه الشرعي: (حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه).
(2) قال أبو عبدالرحمن: في الأصل: (ما كان باله من)؛ فأصلحتُ عبارته من مصدره، وهو رسالة الخطابي ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز بتحقيق محمد خلف الله والدكتور محمد زغلول سلام / دار المعارف بمصر/ طبعتهم الرابعة ص 65.
(3) قال أبو عبدالرحمن: في الأصل: (في وصف)، والذي عند الخطابي (في نعت)، والنحاة والأدباء يوردون النعت والوصف على الترادف، وعند التحقيق فالوصف أعم، والنعت خاص بالحَسَن من الصفات.
(4) قال أبو عبدالرحمن: يعني ما يتميَّز به من أغراض الشعر التي صرف أكثر شعره فيها كما نجد عند العباس بن الأحنف الذي حصر شعره في معشوقته (فوز) وما إليها.
(5) هذا نص الخطابي، وعند المزدلي (ينهجها)، وكلام الخطابي صحيح لغة؛ ففي تاج العروس 2-450- الكويت: ذَهَبَ الشأْمَ، وذهب فلان مذهباً حسناً.
(6) شهد الوصال ص 22-23/ النخبة ببيروت / طبعتهم الأولى عام 2007م.
(7) قال أبو عبدالرحمن: الخلاف وسيع في دخول (ال) على (بعض)، و(كل)، و(غير) بدعوى أنها لا تُزيل الإبهام الذي يحصل به التعريف، وقد رجَّحتُ في تحشياتٍ عارضةٍ جواز دخول (ال) عليهن؛ لأنها تزيل شيئاً من الإبهام؛ بما في (ال) من الدلالة على معهودٍ ما إذا وُجِد ذلك المعهود، وههنا المعهودُ كلام موزون.. ولكن اللحن في إضافة (الغير) إلى (المقفَّى)، والصواب (غير المقفَّى)؛ لأن (المقفَّى) ليست وصفاً لغير، ولكن (غيرُ) - الضم على الحكاية في هذا السياق - استثناء من الكلام تخصُّ ما ليس بمقفَّى؛ فالتقفيه قيدٌ لا وصف.
(8) شهد الوصال ص 24 عن دلائل الإعجاز ص 43، ولا وجود لهذا التنصيص في دلائل الإعجاز بكل سطوره وصفحاته.
(9) انظر من الشعر النبطي 1-175.
(10) قال أبو عبدالرحمن: يعني حمود بن عبيد الرشيد رحمه الله تعالى، ولم يكن حمود حاكم الجبل، وإنما أصيب بقتل أولاده لأبناء عبدالعزيز بن متعب.. وحمود جدهم من الأم، ولم يشرد منهم سوى سعود هرب به أخواله آل سبهان إلى المدينة.
(11) قال أبو عبدالرحمن: القوبع طير أكبر من العصفور قليلاً على راسه لمة من الريش يكون في المزارع والأثل.
(12) قال أبو عبدالرحمن: الحدارية المكان الذي يُنحدر إليه، وهو في عرف أهل نجد الأحساء بمقابل ما يُسْند إليه وهو بلاد جهينة.
(13) التقريب ص 371 - 372 / دار ابن حزم ببيروت / طبعتهم الأولى عام 1428هـ.
(14) وسم على أديم الزمن 24 / 276 - 278.
(15) المصدر السابق 24/ 257.
(16) المصدر السابق 24/ 26.
(17) المصدر السابق 142.
(18) قال أبو عبدالرحمن: صدفة من صدف بمعنى مال، وليس هذا مراداً؛ فالصواب مصادفة من صادف بمعنى عن غير قصد.