كان مما أشرت إليه في مقالتي الأسبوع الماضي اسوداد صفحات تاريخ حكام من حكام أُمَّتنا العربية بما يشينها؛ وذلك لارتكابهم، أو ارتكاب من هم في ظلِّهم، أعمالاً شنيعة بحق شعوبهم.
ومما أشرت إليه، أيضاً، في تلك المقالة أن الهَبَّة، التي قامت تنشد الحرية في سوريا منذ عام وخمسة أشهر، ظَلَّت أكثر من ستة أشهر وهي تحاول أن تبقى سلمية الطابع رغم أن النظام المُتحكِّم في ذلك القطر العربي الكريم واصل تعامله مع الهَبَّة بالبطش وارتكاب المجازر الفظيعة، مجزرة تلو مجزرة؛ ولذلك لم يعد هناك بد من محاولة حماية المدنيين المسالمين وإن بالقوة. ومما أشرت إليه موقف الأمين العام لجامعة الدول العربية غير المُوفَّق منذ بداية تعاطيه مع ما جرى ويجري فوق الأراضي السورية، وهو موقف ينطبق مع القول الشعبي: “الليلة الظلما تبيِّن من عشاه”. وما موقف الأمين العام السابق للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان، من النظام السوري والهَبَّة الشعبية ضده ببعيدة عن موقف الأمين العام للجامعة العربية، إلا أنه أكثر حرفية دبلوماسية.
إن من الواضح أن زعماء الغرب، بقيادة أمريكا، المُؤثِّرين فعلاً في سير الأحداث الدولية قد اتَّخذوا مما يجري في سوريا موقفاً يشبه في بعض جوانبه الموقف الذي اتَّخذوه في البوسنة والهرسك حين لم يتحرَّكوا تحرُّكاً جاداً حتى اكتمل تنفيذ الكوارث. وكنت قد عَبَّرت عن مشاعري حينذاك بأبيات من قصيدة قدَّمت بها الزعيم علي عزت بيقوفيتش عند تَّسلُّمه جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام قائلاً عنه وعما حدث لشعبه:
رَمزٌ لشعب رِيعَ خافق أرضه
واربدَّ وجه سمائه وتَجهَّما
وجرائم الأعداء تبدو عندها
أفعال هولاكو أَعفَّ وأرحما
ومُفسِّر القانون وَفْق مزاجه
يرنو أَصمَّ إلى الجرائم أَبكما
ويمارس التسويف خُطَّة بارع
حتى يُراق دم البريء ويُعدَما
ما كان أسرعه ليردع ظالماً
لو لم يَكُ المظلوم شعباً مسلما!
لقد مضى وقت أكثر من كافٍ لتبيُّن الحق منذ إعلان ما سُمِّي بخطة عنان المُتضمِّنة بنوداً واضحة لم يُنفَّذ أَي واحد منها. وفي مقدِّمة تلك البنود وقف المجازر المرتكبة، التي يعلم الكثيرون من يرتكبها. لكن المجازر لم توقف؛ بل إنها ازدادت وحشية وفظاعة واتِّساعاً مكانياً بحيث لم تنجُ منطقة من مناطق سوريا من رؤية وجوهها البشعة المُروِّعة بمختلف الطرق والوسائل. ما المقابل لذلك من جانب صاحب الخطة المحترم المُتبنَّاة دولياً من حيث الإعلان المنافق، المُستغلَّة عملياً وواقعياً لإطالة عمر النظام؟ مُجرَّد إعلان منه عن قلقه. المجازر البشعة يتوالى ارتكابها، والتدمير الممنهج تتضاعف ممارسته. ولكن الإمداد بالسلاح - وربما بالرجال أيضاً - يتوالى تَدفُّقه مباشرة عبر القاعدة الروسية في الساحل السوري، أو من زعماء إيران الحاقدين على العرب عبر العراق المُتنفِّذين فيه المُتحكِّمين في مسيرة شؤونه بدرجة كبيرة.
السيد كوفي عنان، الذي كان له من التقدير والاحترام ما كان خلال تَولِّيه منصب الأمين العام للأمم المتحدة سابقاً، لم يبد منه أمام ما ظَلَّ يُرتكَب من تقتيل بشع وتدمير فظيع إلا تصريح بعد تصريح بأنه يشعر بالقلق مُسمِّياً ذلك التقتيل وهذا التدمير “عنفاً”، كاتماً لحقيقة بقاء الهَبَّة الشعبية في سوريا أكثر من ستة أشهر سلمية الطابع رغم استمرار النظام هناك في ارتكاب المجازر إبَّان تلك الأشهر الستة؛ ومن ثَمَّ لم يقم بتحميل ذلك النظام المسؤولية كاملة، والدعوة إلى محاسبته على ما اقترفه من آثام بحق شعبه. قلق السيد عنان، شديداً عُبِّر عنه أو غير شديد، لا يغني من الحق شيئاً. كان المأمول - وما زال - أن يحترم ذلك السيد تراثه من التقدير، ويعلن - منذ أن تكشَّفت له الحقائق على أرض الواقع - الجانب المستحق للتجريم والمعاقبة، لا أن يجعل العالم كله لا يسمع منه إلا زيادة ضَخٍّ من مخزون تصريحات عن القلق أصبحت ممجوجة فارغة المعنى فاقدة الدلالة.
التسويف الذي تَبنَّاه ذوو النفوذ في العالم - وليس زعماء الدول العربية منهم بطبيعة الحال - تجاه الجرائم التي كانت تُرتكَب في البوسنة والهرسك حتى اكتمال تنفيذ تلك الجرائم يعاد إخراجه وتكراره الآن تجاه ما يُرتكَب في سوريا، وإن اختلف كنه مرتكب الجرائم والمرتكبة بحقه، وذلك في كون مرتكب الجرائم في البوسنة والهرسك مختلفاً عن خصمه ديناً وعرقاً، وكون مرتكب الجرائم في سوريا والمرتكبة بحقهم من الوطن نفسه. سَيظلُّ التسويف هدفاً لإطالة عمر النظام في سوريا ما أمكن مُتذرِّعاً بخطة عنان الفاشلة فشلاً واضحاً إلا بمنح ذلك النظام مزيداً من الفرص للفتك بخصومه، أو منتقلاً إلى خطة أخرى بديلة يكون للروس والإيرانيين فيها دور أكبر. سَيظلُّ ذلك التسويف مُتَّبعاً حتى يكتمل تدمير سوريا إنساناً وعمراناً. عند ذاك - وعند ذاك فقط - سوف يطمئن الكيان الصهيوني بالذات إلى أنه تَحقَّق له من المكاسب الشيء الكثير، فَيتحرَّك قادة أمريكا - سيدة دول العالم حقيقة - مكتفين بذلك الاطمئنان، وتَتغيَّر مواقف كثير من زعماء دول العالم، لكن ذلك التحرُّك وهذا التغيير سيكونان فوق رفات الضحايا وأطلال مشاهد التدمير.