لفت انتباهي سيرة بعض المفحِّطين كما سمعتها في إحدى حلقات برنامج الثامنة اليومي، والذين كانت حياتهم كما عبّروا عنها مشبعه بالإفلاس المادي والإحباط، لكنهم مع ذلك يبحثون عن الشهرة من خلال أقصر الطرق، وبقدر ما تفاجأت بإخفائهم شخصياتهم الحقيقية، وذلك خوفاً من السلطات الأمنية والدينية، أدهشني طلب أحدهم في نهاية الحلقة أن تُوظّف مهاراتهم الخطيرة في قيادة سيارات الهيئة والشرطة لمطاردة المواطنين، فعجبت من ذلك الطلب، والذي وجدوا فيه باباً للتأهيل الاجتماعي، يُخرجهم من حياة الجهالة إلى الشرعية، ويمنحهم زمام السلطة للمطاردة وملاحقة الناس، وليمارسوا هواياتهم غير القانونية عبر بوابة الدين أو النظام، وهذا ليس بجديد في حياتنا الاجتماعية..
ذكر لي أحدهم قصة واقعيه لشخص اشتهر بكنية أبو صالح، فقد كان أشهر المفحّطين قبل عقدين من الزمان، ونال شهرة وصيتاً في التفحيط والمطاردة من قِبل السلطات الأمنية، لكن بعد سنوات عرف أبو صالح كيف يخرج من مأزقه، أطلق لحيته، وتحوّل إلى متديّن ثم انتسب إلى الهيئة، ليصبح من أشهر سائقي سياراتها في مطاردة الشباب في الشوارع..، كان التحوّل للتديُّن أشهر طريق لتأهيل المطاردين من الأمن، لكنها ظاهرة قد تكون تلاشت قليلاً بعد خروج ظاهرة القاعدة والتطرُّف الديني المسلّح.
ما سمعته من الشباب المفحّطين يعبّر عن مأساة الطبقات الاجتماعية الفقيرة مادياً، فظاهرة العبث والتمرُّد على الأنظمة والقوانين التي يعبّرون عنها بالقيادة المتهورة والتفحيط والعيش خارج النظام، قد تكون في نفس الوقت بوابة الحصول على بطاقة التأهيل الشرعي والاجتماعي ليمارسوا عبثهم نظامياً في المطاردة والملاحقة، تماماً كما هو الحال في أولئك الذين عاشوا حياتهم في عالم الضياع والتمرُّد واللامنهج، ثم تم تأهيلهم ليلبوا طلب الجهاد في أفغانستان، وليصل الحال إلى أن يعبروا الحدود مهما كلف الأمر للجهاد في العراق، لتحدث الطامة بعد أن عادت ركابهم محمّلة بالعتاد والأسلحة.
وإذا تأمّلنا مجتمعنا في موضع آخر على وجه النقيض تماماً من أحوال شباب التفحيط، ويكمن بالتحديد في بيئة الطبقة المترفة أن صحّ التعبير، هناك يظهر عبث آخر، لكن في اتجاه آخر، ويشترك مع الطبقات الأدنى في الإفلاس (المعنوي)، وفي إخفاء الشخصية الحقيقية عند بعضهم، وفي الرغبة في تحقيق الشهرة من خلال أقصر الطرق، ويكمن هوس الشهرة عند بعض أبناء تلك الطبقة في أن يصبح أحدهم شاعراً غنائياً يُغني له أشهر المطربين والمطربات، والشعر الغنائي في العصر الحالي يكاد ينحصر في فئة محددة، لا يجد أبناؤها طريقاً للشهرة أسرع من أن يكتب أحدهم أو يشتري شعراً غنائياً هزيلاً، ثم يبذل الأموال لبعض المطربين ليغنّوا كلماته الركيكة، لكنهم لا يحتاجون إلى تأهيل من أجل أن ينقلوا عبثهم إلى أسماعنا المتعبة من سماع الأغاني والموسيقى الهزيلة، فالوجاهة الاجتماعية تضمن لهم المؤهل، والأثير يضمن لهم المساحة..
في ظل هذا النقيض الطاغي والمتشابه، تعيش الطبقة المتوسطة في ضائقة بين هاتين الطبقتين، وتكاد تختنق بسبب احتلالهم للجو العام، والذي لا يخرج عن إما عن بث أغاني الشعراء الغنائيين الجدد، أو عن برامج الوعظ الغليظ والمتشدّد، والذي يقدم نفسه كبوابة لتأهيل المحبطين والخارجين عن القانون، من خلال ما يُطلق عليه ببرامج النصح والوعظ، والذي إذا قَبِل أحدهم الانخراط فيه غسل ماضيه الإجرامي ببركات الشيخ الجليل، ونال الشهرة والمباركة من قِبل السلطة، كما ينال الشاعر الغنائي المترف بركات الشهرة عبر بوابة شراء الأصوات لغناء كلماته المثيرة للغثيان والكآبة، بينما يغيب عن الفضاء العام البرامج التي تخدم أخلاقيات وسلوك الطبقة المتوسطة، وتخاطب العقل، وتكافئ المبدع، وتضع الحلول لجعل الطبقة المتوسطة الأمان الذي يحفظ الذوق العام والأخلاق، ويجعل من العقلانية والمهنية والعمل والجد الطرق المؤدية للنجاح الحقيقي.
ما كتبته أعلاه مجرّد تأمُّلات تبحث عن إجابة عن ما أراه من عبثيات لا منطقيه في “مجتمعنا الفاضل”، تعبِّر عن الإحباط، وقد تثبت أنّ للعبثية فصولاً غير فلسفية، لكنها تشترك معها في بعض الوجوه، كما عبّر عنها فيلسوف العبث البير كامو في تعريفه له، وهو ذاك الصراع القائم بين التمرُّد أو اللاعقلانيّ الغامض وبين البحث عن الشفافية والوضوح أو العقل..، يظهر ذلك بوضوح عند تناقض طرفين، يربط بينهما اللامنطق والتمرُّد، وتفصل بينهما العقلانية والمهنية والأخلاق.