من طبائع الأمور ومسلماتها أن الحياة لا تخلو من نكد وكدر، ضيق وعسر، فالعلاقات الاجتماعية على مستوى الأسر والأفراد عرضة لسوء التفاهم واختلاف وجهات النظر، وتعارض المصالح، وتحريض المغرضين وتوتير الحاسدين، وغير ذلك كثير مما يتسبب في تشويه العلاقات ويفسدها ويخرجها من طبيعتها ووتيرتها المنسجمة المتوافقة، إلى علاقات مضطربة متدابرة متناحرة، بل قد تصل في مراحل معينة إلى السفه والسب والتعدي المادي والمعنوي الذي يلحق الأذى والضرر وتعميق الفجوة والكراهية إلى درك يتعذّر ردمه، أو تناسيه وغض الطرف عنه.
ومن يتتبع الخبرة البشرية، يتبيّن له أن الناس يتفاوتون أمام مواقف الإيذاء والتطاول والتنكيد والسب والشتم، هذا ما يتبيّن في مختلف الثقافات البشرية، إنهم يتفاوتون في التفاعل والتقبل والتكيّف والتعامل مع حيثيات مواقف الإيذاء، والتصدي لتبعاتها وما يترتب عليها من أضرار ومفاسد، حيث يتحكم الموروث الثقافي، والتنشئة الاجتماعية، والقيم المجتمعية في نمط السلوك وردود الفعل، البعض يقابل الإساءة ويتعامل معها بمنتهى برودة الأعصاب وعدم المبالاة، حيث يصعب استثارة غضبه وانفعاله، ينطبق على هؤلاء المثل الذي يقول: فلان بعير شمال، راكد هادئ، بينما آخرون يضطربون وينفعلون ويغضبون عند أتفه الأسباب وأقلها شأناً واعتباراً، وتجد أحدهم لو أعسرته يده لقطعها من شدة انفعاله وغضبه وتسرّعه، ويسوغ الرد العنيف على الإساءة بإساءة مثلها أو أشد منها باعتماده على مقولة تحريضية يرددها العامة: من قال لك: يا أبا الحمير، قل له: يا أبا الكلاب.
من البدهي أن الذي تسيّره هذه المقولة لا يختلف عن المسيء، حتى وإن عرف عنه أنه يتسم بالوقار والحلم، أو زعم أنه أعلى من المسيء قدراً، وأسمى منه مقاماً، طالما أنه جاراه وسار على نهجه في استخدام ساقط القول وسيئ الكلام، يتساوى الاثنان لكونهما ينهلان من المعين نفسه، ويستخدمان المفاهيم والعبارات نفسها، حتماً لا فرق في المقام والمكانة بين أبا الحمير وأبا الكلاب، كلاهما ينهج النهج نفسه، ويستخدم الأسلوب نفسه، حتى وإن كان بين هذا وذاك فرق حقيقي وبون شاسع في المقام والمكانة.
هذا الاستنتاج منطقي وعادل، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان، لأن الناس تحكم على الظاهر، حتى وإن كان يعلم حقيقة أحدهما وجوهره الذي يخالف ما بدا منه، المهم ما يسمعه الناس ويرونه لا ما يعلمونه عنهم في مخزون الذاكرة.
لهذا فالأفضل من سلوك المراهقين وأجدى منه، اتباع المنهج الذي ارتضاه الله لعباده ودلهم عليه، تعالوا نقف مع هذه الآية {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }، إن الدفع بالتي هي أحسن، سلوك حضاري قوامه العفو والحلم والإحسان إلى المسيء، عندها سوف يصير هذا المسيء قريباً منك قريباً إليك، هذا الخلق العظيم النبيل ليس بمقدور كل أحد واستطاعته أن يتحلَّى به، لأنه يتطلب ترويض النفس، وتعويدها على الصبر والمصابرة والصفح.
عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله: إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، أحسن إليهم ويسيئون لي، أحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت كذلك.
لم يندم قط من تحلَّى بخلق العفو والصفح، إنه مرفوع الرأس، عزيز النفس، لا يلتفت إلى الصغائر، ولا تستثيره بذاءات الصغار وانفعالاتهم، إنه الأعلى قدراً، هنيئاً له كريم خلقه، ونبيل مواقفه.