التمويلات هي شريان الاقتصاد الحديث. فتطوُّر الصناعات وعلومها وتنوُّع الخبرات وحجم المشاريع الضخمة، فصل بين صاحب الثروة وبين القادر على استغلالها، فكانت البنوك والسندات هي حلقة الوصل بين الطرفين. والتمويلات ليست كالقروض. فالمموّل مشارك بالمخاطرة في حالة إفلاس المشروع المموّل، اللهم أنه يأتي في التصفية قبل الشريك الحقيقي أو حملة الأسهم. ومن بعد انفكاك العملات عن الذهب، أصبحت الفائدة هي المنظم للاقتصاد عن طريق استخدامها في ضبط العرض النقدي بتيسير السيولة أو تجفيفها، من أجل كبح جماح الطفرات الاقتصادية الوهمية، أو دفع الاقتصاد المتباطئ.
وقد استخدم الفدرالي الأمريكي الفائدة من أجل إخراج الاقتصاد من أزمته. فوصل بسعر الفائدة في المدى القصير (ليلة واحدة إلى قريب الصفر). فضخّ (أي طبع بالمعنى المجازي) من الدولارات أضعاف ما كان موجوداً منها. فقد كانت القاعدة النقدية 800 بليون دولار، ثم وصلت خلال العام الأول من الأزمة إلى 2000 بليون دولار (تريليونان). أي أنه «طبع» 1200 بليون دولار - ضعف ونصف الضعف مما كان موجوداً. هذا الضخ - بالإضافة إلى أنه كان ضرورياً لإنزال سعر الفائدة - فكثرة الدولارات تُرخص سعرها - (وسعر الدولار أو أي عملة مشتق من سعر الفائدة عليه).
هذه الدولارات «المطبوعة» الجديدة قامت بدورها في استقرار البنوك وعدم إفلاسها وضمان السوق النقدية، مما جنّب الاقتصاد كساداً عظيماً ككساد الثلاثينات، (عندما كانت العملات مرتبطة بالذهب فلم يكن طبع الذهب ممكناً لتهدئة السوق النقدية، فانهارت البنوك آنذاك لشحِّ السيولة). إلاّ أنّ هذه الدولارات المطبوعة حديثاً لم تتولّد (أي لم تخلق دولارات أخرى) في الاقتصاد كما ينبغي - أي لم تتحوّل إلى تمويلات. وذلك لأن «الدولارات «المطبوعة حديثاً» صبّت في احتياطيات البنوك، وهي لا تكلف البنوك شيئاً فالفائدة تقريباً صفر. ولذا، فالبنوك احتفظت بها فلم تقرضها خوفاً من مخاطر المستقبل وأهمها إفلاس العملاء المتموّلين أو الراغبين الجدد في التمويل، إضافة إلى توجُّس البنوك من خطر تغيُّر سعر الفائدة وارتفاعها مستقبلاً، مما أجبر البنوك على رفع سعر الفائدة الطويلة الأجل -10-30 سنة -، فكأنك يا بو زيد ما غزيت. فالمشاريع التي تبني الاقتصاد هي مشاريع تحتاج إلى تمويلات طويلة الأجل. أما التمويلات القصيرة الأجل فهي قد تحرك الاقتصاد ولكن لا تبنيه.
ومع انكشاف أجزاء من الأزمة، بدأ الإفلاس يتبيّن ويتميّز الغث من السمين، وبقى أمام البنوك مشكلة مخاطرة ارتفاع الفوائد مستقبلاً. ومن أجل ذلك صرح الفدرالي الأمريكي العام الماضي بأنّ الفائدة لن ترتفع إلى عامين أو ثلاثة مقبلة - أي أنه عاد إلى سياسته التي تخلّى عنها منذ عام 1979م وهي إعلان هدف البنك المركزي.
وفي هذه الأيام وبعد أن استنفذ الفدرالي الطرق التقليدية من ضخِّ الدولارات وما زال الاقتصاد بحاجة إلى دفع من السياسة النقدية، قام الفدرالي بعملية «لي» لا تقوم بضخِّ مزيد من الدولارات بل تخفض أسعار الفائدة الطويلة وهي تسمّى « عملية لي «twist operation». فقد بدأ الفدرالي الأمريكي ببيع السندات القصيرة الأجل، واستخدام أثمانها من أجل شراء السندات الطويلة الأجل - لثلاثين عاماً -، مؤملاً أن يحقق ذلك تخفيضاً لأسعار الفائدة الطويلة الأجل. وذلك يتحقق بسبب أن بيع الفدرالي للسندات القصيرة الأجل سيسبِّب كثرتها في السوق وبالتالي انخفاض أسعارها مما سيرفع العوائد عليها، وعلى النقيض فبسبب شرائه للسندات الطويلة الأجل فذلك سيسبِّب شحّاً لها في السوق، مما سيرفع أسعارها وبالتالي يخفض عوائدها. وبارتفاع عوائد السندات القصيرة الأجل وانخفاض عوائد السندات الطويلة الأجل، سيتعدّل «منحى العوائد» فيصبح أكثر تسطُّحاً -. ومنحى العوائد، هو منحى يقرأ التوقُّعات المستقبلية لأسعار الفوائد «yield curve». ومتى أصبحت توقُّعات الفائدة المستقبلية الطويلة الأجل منخفضة - وهي التي يحكيها منحنى العوائد - ستنخفض الفوائد على التمويلات الطويلة الأجل الممنوحة اليوم.
هذه ومضة خاطفة على جزء بسيط من عمل الفائدة الحقيقية اليوم واستخدامها في تطويع الاقتصاد وتسخيره لخدمة المجتمع والأمّة، لا المسكوت عنه عندنا وهو نسج الأساطير الاشتراكية والقديمة حول الفائدة من أجل الاستمرار على التعلُّق بفتاوى قديمة بطلت قولاً واحداً، شرعاً وعقلاً. ومن أجل استغلال الفائدة بمسمّى المرابحة عن طريق الصيرفة الإفلاسمية في تحقيق أرباح عالية للبنوك من غير مخاطرة تذكر، لا من أجل استخدامها في بناء الاقتصاد. فالفوائد اليوم عندنا عالية من غير سبب يُذكر، رغم أننا مربوطون بالدولار - فكلفة السيولة تقريباً متساوية على بنوكنا وبنوكهم، اللهم أنّ بنوكنا تتمتع بكثير من الودائع المجانية، وتتمتع بإيداع فوائض احتياطياتها الزائدة عند مؤسسة النقد بالفائدة، وهذا مما لا تتمتع به البنوك الأمريكية. ولو أُجبرت البنوك على دفع الفوائد على الودائع كلها - ولو لخزينة الدولة -، ولم تعط فوائد على فوائض احتياطياتها - مع منعهم من تحويلها للخارج بتنسيق نموذج تعقيم خاص بذلك لا يدفع فوائد لهم - (ومعظم حجج البنوك ممكن تفنيدها علمياً وواقعياً)، لكان ذلك سبباً لانخفاض الفوائد على التمويلات لا ارتفاعها بحجة زيادة الكلفة. فكلفة الودائع ستجبر البنوك على التمويل، والتنافس على التمويل سيخفض جزءاً من سعر فائدة التمويلات المبالغ فيها عندنا بحجج واهية. ومما يساعد على تحريك مثل هذه الأمور وبحثها هو وجود هيئة حماية المستهلك المالية عندنا، وهو أمر حيوي وصحي يحقق التوازن ويظهر الحقائق وينشر المعرفة والإدراك عند المجتمع.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem