تمر الأيام بما فيها من أحداث محكمة: ليل يتبعه نهار، ونهار فيه أحداث ترصد تاريخياً: شهراً بعد شهر وعاماً يتلوه أعوام: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء (140) سورة آل عمران. وهذا التعاقب شاهد لنا أو علينا، وقد جاء في.....
..... المداولة التي تمر بالإنسان أنها للموعظة وللعلم بأنها مقدّرة من الله، يقول سبحانه في هذا الامتحان: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ (140) سورة آل عمران. لكن الميزان بينهما كبير، لكي يرتبط المرء بخالقه حمداً وشكراً للفوز، ومحاولة الاستدراك لمن أخفق، فالفائز يحب الزيادة ما دام قادراً، والمُخفق عليه أن يقلّب صفحات عمله ليتدارك قبل الضياع.
ونقرِّب بمثال محسوس في حياة الناس، فالطالب والطالبة في التعليم، لهم معدلات في مقاييس الفهم والإدراك ولهم امتحان في معدّل الدرجات، لكل نوع من المعرفة، ومن تدنّت درجاته أتيح له الدور الثاني لكي يعوّض ما فات بالتقوية، لأن هذه المقولة أمامه: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
ومثل محسوس آخر فالإنسان في تجارته وعمله أياً كان: فرداً أو جماعياً، يحددون مقياساً لمدارسة مسيرة العمل في الفترة الأولى لمعرفة آثار تلك المسيرة ربحاً أو خسارة، فالربح يفرحون، ويضاعفون الجهد التي بانت نتائجه، وإن كانت الثانية بحثوا طريقة التحسين لعلهم يتلافون الخسارة مرة أخرى لأنهم لحبِّ الخير شديدون.
والأمثال يؤتى بالتقريب المحسوس بالمعقول، ولله المثل الأعلى، ولما كان شهر شعبان كما قال بعض العلماء هو الذي تكتب الآجال لبني آدم فيه، فإن الإنسان مأمور بالتفكّر في حكمة التشريع في مداولة الأيام، وما عليه من واجب في تعامله مع ربه في الأمور التعبّدية وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات، حتى لا يتغلّب عليه النظر في المردود الدنيوي، على حالته الأخروية: بين سعادة وشقاء. لأن المدار عنده يجب أن يكون وفق هذا الحديث القدسي: (ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب، وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب)، فإن على المرء أن يتعظ من حوادث تقلّب الأيام، فيه وفي غيره، قبل أن يندم ولات ساعة مندم، ويقول المقصّر: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ (56) سورة الزمر.
وشهر شعبان الذي أطل هلاله قبل ساعات، هو شهر فضيل وشهر عبادة، وكل عمر الإنسان مع ربه عبادة باللسان ذكراً وتسبيحاً، وباليد بذلاً وعطاء، وبالوجدان إحساساً ويقيناً، وبالرجلين إلى المساجد مشياً ودعوة، وبالنظر غضاً عن محارم الله مع كف الأذى عن الجيران وغيرهم وعن مقولة السوء.
وقد جاء شعبان بين شهرين فضيلين هما: رجب الذي يطلق عليه رجب الخير، وهو واحد من الأشهر الحرم والتي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (36) سورة التوبة. وهذه منها ثلاثة متتالية في الحج وواحد منفرد هو شهر رجب، بما فيه من فضل.
أما شهر شعبان فلمكانته وفضله فقد ورد على الألسنة أنه بين رجب ورمضان، وقد استحب بعض العلماء صومه كاملاً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه أحياناً، ويترك صيامه أحياناً، وقد قال بعض العلماء من فضائله، أنه الشهر الذي تكتب فيه وتمحى الآجال.
ولما كانت تطرح في هذا الشهر أسئلة من النساء والرجال، كثيرة فيه، منها ما يتعلق بالصيام، لمن كان عليه قضاء حتى أدركه شعبان ثم أدركه رمضان بها أو بعضها فماذا عليهم؟ فقد رأيت إيراد نماذج منها، دون استقصاء، العمل ذلك يلبي رغبة القرّاء، وهي من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، بحسب ما ورد من سائلة تقول يا سماحة الشيخ: هل يجوز صيام التطوع في هذا الشهر أعني شعبان أفادكم الله؟، فأجابها سماحته: يستحب صيام شهر شعبان، فقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام: يصوم شعبان إلاّ قليلاً، وربما صامه كله بعض الأحيان هذا الشهر العظيم، شعبان فيستحب صيامه كله، إلا قليلاً، ولكن لا يجوز أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصم) أما إذا انتصف شعبان فلا تصوموا إلا من صام أول الشهر أعني شعبان.
والأحوط إلا بعد النصف من شعبان، إلا إذا كانت له عادة، أو يقضي قضاء عليه وما أشبه ذلك أما أن يبتدئ الصيام بعد النصف من شعبان، فينبغي له ترك ذلك لهذا الحديث.. وإن الحديث به اختلاف لكن الصواب لا بأس به).
وجاء في فتاوى نور على الدرب لسماحته: مسألة في تأخير قضاء الصوم حتى اقترب رمضان آخر حيث إن السؤال من سائل قال لقد تركت أياماً من شهر رمضان في العام الماضي وأنا مُحْرَج حيث سيداهمني رمضان هذا العام؟ هل أترك الصيام لما بعد رمضان وأصوم؟ أم أصوم الذي عليّ عن رمضان الماضي ثم أبدأ مع المسلمين في صيام هذا الشهر؟.. كان جواب سماحته رحمه الله ما يلي:
يلزم السائل وفقه الله أن يبادر بالصوم في هذه الأيام الباقية من شعبان، وأن يقضي ما بقي عليه من الصوم هذا هو الواجب عليه قبل رمضان الجديد، ولا يجوز له التأخير والتساهل لكن لو غلبه أمر كمرض منعه من الصوم، فإنه يصوم بعد رمضان وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، بسبب التساهل الذي ألجأه لهذا، إلى التأخير، أما الآن فيلزمه المبادرة بالصوم، يلزمه أن يبادر ويصوم ما عليه، ويقضي قبل رمضان هذا هو الواجب عليه، إلا أن منعه مانع من الأمور كالمرض، ما استطاع، فلا بأس أن يؤجل إذا عجز بسبب المرض حتى جاء رمضان، فإنه يؤجّله ويصومه بعد رمضان، إن شاء الله وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، لأنه تساهل في التأخير، قبل المرض، أما لو أخره بسبب المرض في جميع السّنة، يعني من حين أفطر وهو في مرض إلى الآن وهو في مرض حتى جاء رمضان الآخر بعد انتهاء شعبان فلا شيء عليه إلا القضاء يقضي بعد ذلك إذا عافاه الله يقضي بعد رمضان ولا شيء عليه.
أما إذا أخر الصيام تساهلاً، وعدم عناية فإن عليه التوبة والاستغفار، وعليه أن يقضي ويطعم إذا أخره، إلى ما بعد رمضان، أما إذا صام في رجب أو في شعبان فلا بأس، ما عليه شيء يصوم ولا حرج عليه (ج 16 نور على الدرب ص 348).
ولأن مثل هذا يشترك فيه النساء والرجال، لكن النساء أكثر من الأعذار، لما يعتريهن، فنورد سؤالاً وإجابته من أجل إفادة النساء كأنموذج فنورد سؤالاً وجوابه تقول هذه السائلة: نحن الآن في شعبان وقد أفطرت في رمضان لمدة ثلاث سنوات وذلك بسبب ألم يصادف رمضان، وللجهل بأحكام الصيام ولم يكن لدينا مرشدين، وقد أفتاني بعض المجتهدين بأن عليّ الإطعام دون القضاء، ونرجو التوجيه في هذه المسألة، جزاكم الله خيراً؟
فأجابها سماحته بأن الصواب الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، أن عليها القضاء دون الإطعام، والقول بأن عليها الإطعام قول غلط، في أصحّ قولي العلماء، وإنما عليها القضاء دون الإطعام، إذا كانت معذورة من أجل الحمل أو الرضاع أو مرض، فعليها القضاء فقط دون الإطعام، أما إذا كانت تساهلت وحصل لها وقت تقضي فيه، لكنها تساهلت فعليها مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع، بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقارب كيلو ونصفاً تقريباً، من قوت البلد، من تمر أو زر أو غير ذلك عن تأخيرها الصيام.
وعلى المرأة أن تتقي الله دائماً، في صومها وصلاتها وفي جميع أمور دينها، وغير ذلك، كالرجل كل منهما عليه أن يتقي الله، وأن يهتم بأمور دينه، وأن يجتهد في أداء الحق الذي عليه، فالصوم ركن من أركان الإسلام الخمسة، فالواجب على الرجل والمرأة المكلّفين، العناية بهذا الأمر، وعدم التفريط فيه، فإذا أفطر الإنسان لمرض أو سفر، أو أفطرت المرأة لحيض أو رضاع، يشق معه الصيام، فإنها تقضي وتبادر بالقضاء من حيث تستطيع، والله ولي التوفيق.
أما كونها تركت الصيام لجهل، أو لقلة التوعية الإسلامية، في وطنهم كما جاء في السؤال، فإن هذا لا يمنع القضاء، لأنّ هذا أمر معروف بين المسلمين، وهو من الأمور المعروفة المشهورة، التي لا تخفى على أحد (فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن باز رحمه الله ج 16 ص 354).
والفتاوى في هذا الشهر لقربه من رمضان، والحيِّز لا يحتمل أكثر من هذا.
وكثير من علماء السّلف الصّالح في هذا الشهر، يكثرون من هذا الدعاء: اللهم بارك لنا في شعبان وبلِّغنا رمضان، ونردِّد معهم لعلّ يتقبّل من الجميع.