طاوعني يا عقلي..
كلمة أرددها، وأناجي بها عقلي، كلما ضاقت علي الأرض رحبت، مناشداً إياه، تخفيف التشاؤم والبرم والخروج من ضوائق الخوف، وظلال الفجر، وتطلعاً إلى التسليم بأن الإنسان خلق في كبد، وأن الله جل وعلا مثلما يداول الأيام بين الناس، فإنه يداول المصائب والأرزاق والأخلاق والصحة والمرض، وأن البقاء في النهاية لله وحده، فهو الذي يرث الأرض ومن عليها. وكيف يتطلع مخلوق إلى الخلود والله قد خاطب أحب الناس إليه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ وقضى بأن كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وأن كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وفوق هذا وذاك، فإن كل الذي فوق التراب تراب، وأن الأنفس التي تملك الأشياء ذاهبة، وليس من الحصافة أن يبكي الذاهب على ذاهب مثله، ومهما أحب الإنسان، وأسرف في الحب فإنه مفارق، وفي الحديث:
(أحبب حبيبك هونا ما...).
هذا القلب الحساس إلى حد التشنج لم يذعن ولم يطاوع وكيف يتأتى منه ما أريد؟ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ومتى يتداركه الله برحمته فيكون من الطائفة المستثناة: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وبلادنا ليست بدعاً من البلدان، فهي معرضة للأتراح والأفراح، وكل ذي نعمة محسود، ثم إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والمؤمن الحق من يقف وسطاً بين اليأس والرجاء.
وتاريخنا الحديث مليء بالأحداث الجسام المفرحة والمترحة، وكل حدث مؤلم نقطع بأنه الأصعب، وأنه الحاسم، ولكن رحمة الله تسبق غضبه، ولطفه يحول دون عقابه، ومن حيث لا نحتسب يقي الله البلاد والعباد عقابيل المصائب، ويملأ فراغهم بما يعوضهم عما فاتهم.
والخلقُ المؤمن على موعد مع الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، والبشارة للصابرين المسترجعين.
ولو نقبنا في تاريخنا الحديث، لتبدت لنا لحظات حرجة وساعات مؤلمة، ومن فضل الله علي وكرمه أنني عاصرت ستة ملوك، ورصدت وفيات خمسة منهم.
سمعت وأنا طفل لم أبلغ الثانية عشرة بوفاة الملك عبدالعزيز، مما أثار دهشتي وأنا ألهو مع لداتي نداء المؤذن بعد صلاة الجمعة وهو يدعو إلى صلاة الغائب على روح الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وحين أسرعت إلى البيت وجدت أبي رحمه الله جالساً القرفصاء في حالة حزن وخوف وترقب واسترجاع وكان الناس حينها يتوقعون تفلتاً في الأمن، وعودة إلى ما قبل التوحيد، ومرت الأيام ولم يتغير شيء، إذ خلف من بعده من تلقى الأمانة ونصح للأمة، وتعاقبت الوفيات، وفي كل مرة نحس بالخوف والقلق ونضطرب في حسابات الربح والخسارة وعلى مدى سنتين تعرضت البلاد لهزات حزن عنيف، فلقد مات سلطان بن عبدالعزيز، ولحق به نايف بن عبدالعزيز رحمهما الله، والرجلان ملء السمع والبصر، لما يتمتعان به من أخلاقيات فاضلة ولما يتوفران عليه من إمكانيات استثنائية ولما يضطلعان به من مسؤوليات جسام، وفي كل حدث جلل، ينتابنا الحزن والخوف.. الحزن على فقد عزيز، والخوف من فراغ في المسؤولية، قد يطول أمده ولكننا في لحظات الارتباك وذهول الصدمة نسمع ونرى سداً للخلال، وحماية للثغور، ونهوضاً بالمسؤولية، وإذ بالخلف يترسم خطى السلف، وإذ بالخيرية تتوفر بالطرفين، وتلك من نعم الله على البلاد والعباد، فالفراغات الدستورية وشغور المناصب السيادية يعدان من طاعون الشعوب.
وبلادنا من عهد المؤسس رحمه الله لم تشهد فراغاً دستورياً؛ فولي الأمر من أحرص الناس على تجاوز اللحظات الحرجة، وبعث الثقة والاطمئنان في نفوس الوجلين، ولاسيما أن العقود الثلاثة الأخيرة جاءت حبلى بظواهر الإرهاب والحروب والمخدرات والثورات التي انفلت معها الأمن، وانطلقت فيها الأيدي والألسن ونسلت (الأيديولوجيات) والطائفيات، وكنا ولم نزل وسط اللهب.
وغياب مسؤول بحجم نايف بن عبدالعزيز في ظل هذه الأوضاع مدعاة إلى الخوف والترقب، فحين قضى نحبه في هذا الزمن الموبوء مُني الوطن والمواطنون برجفة المصاب غير المتوقع وانتابهم الخوف والترقب، ولم تمض ساعات على مواراة جسده الطاهر في الأرض المقدسة حتى جاءت بشائر الخير، معلنة سد الثغرات.
فـ(سلمان بن عبدالعزيز) الذي تلقى الراية ونهض بالمسؤولية واستلم ثلاث مسؤوليات جسيمة: ولاية العهد، ونياية رئيس مجلس الوزراء ووزارة الدفاع، جدير بها، لما يتمتع به من إمكانيات ذاتية وخبرات عملية، وعلاقات حميمة مع مختلف أطياف المجتمع ولاسيما أنه يمسك بثلاثة ملفات جانبية ليست من صميم مسؤوليته: ملف الأسرة الحاكمة، وملف المثقفين والإعلاميين، وملف تاريخ الجزيرة الحديث، وهذه الملفات الثلاثة وفرت له خبرات وتجارب لا يستهان بها.
ما يحمد لقادة البلاد سرعة اتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظات الحاسمة والانسيابية في تداول السلطة، وهذا مؤشر إيجابي تضوى به أجسام المتربصين الذين تخسر رهاناتهم عند كل موقف حرج، يظن المناوئون كل الظن أنه بداية النهاية لاستقرار البلاد، وسلمان بن عبدالعزيز يعيش حضوراً فاعلاً، ويشارك في القرارات المفصلية، وهو رجل دولة، ومن ثم فلن يفاجأ بالمسؤوليات ولن تفاجأ به المسؤوليات، إنه ابن بجدتها وإنسانها الذي تقلب معها منذ نعومة أظفاره.
وحاجة سلمان ليست في ذكر المآثر والخيرات والثناء عليه بما هو أهل له، ولكنها في الدعاء الصادق، وشد الأزر، والمناصحة، وحفظ الغيبة، فكل مواطن راع، وكل راع مسؤول. ويكفيه أن الأمة راضية متفائلة ومتفقة على القبول به والثقة بمواصلة المسيرة الخيرة، إذ تلقت النبأ بالارتياح والاطمئنان والثقة، ومصير مثله إلى هذه المسؤوليات الجسام دليل على أن البلاد تجاوزت محنتها بسرعة، ولم تتعثر، ومبادرة خادم الحرمين الشريفين بسد الثغرات من بشائر الخير، فوزارة الداخلية لا تقل أهمية عما سواها، وبخاصة في ظل الظروف العربية وما تعانيه دول المنطقة من اضطرابات لن ينجو من دخنها أحد، وسمو الأمير أحمد بن عبدالعزيز عاش شطراً من حياته نائباً لوزير الداخلية، وهو بهذه الخبرة جدير بأن يخلفه في مسؤولياته.
رحم الله الأموات وسدد على طريق الخير خلفهم وحفظ البلاد وأهلها ومقدساتها من كل سوء، وأيد الله بنصره وتمكينه خادم الحرمين الشريفين وجعله وأخويه وسائر أعوانه ووزرائه وبطانته من الساعين في حاجات المواطنين.
وشعب وفيّ لقادته وحفظ ساقتهم وأسر المحبة، جدير بأن يتوفر على كل مقومات الحياة الكريمة، وما تلك القرارات الحكيمة إلا جزء من حق هذا الشعب الوفي.
رحم الله ناصر السنة نايف بن عبدالعزيز
وسدد على طريق الخير خطى سلمان بن عبدالعزيز
ووفق الله تعالى أحمد بن عبدالعزيز لحفظ الأمن
ورزقنا جميعاً شكر نعم الله الظاهرة والباطنة؟