الحمدُ لله ربِّ العالمين على قضائه وقدره، له ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بحسبان، وأمتنا أمة الإسلام هي أول من يدرك أن الدنيا لا تتوقف وأن الآجال مقدرة منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وصنع الكون فأتقنه، ولكنها صدمة الموت إذا أصابت رجالاً بحجم التطلعات المأمولة منهم لوطن هو ميزان الأرض جغرافيًا وصانعها تاريخيًا وطن الإسلام وقبلة المسلمين، الوطن الذي تهفو إليه أفئدة أهل الشرق والغرب فيجدون فيه الأمن والأمان، وإن من صدّرت العنوان به هو رجل الأمن الأول حتَّى غدا هذا المصطلح محفورًا في ذهنه وذهن من عمل معه، وصورة ذهنية نستذكرها كلَّما شاهدناه اسمًا ورسمًا وصورة وشخصًا.
إن وفاة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز -رحمه الله- كانت مصابًا جللاً وحدثًا أثر في نفوس الجميع في هذا الوطن؛ بل وفي نفوس العرب والمسلمين والعالم أجمع، لما عُرف عنه من جدية وعمل وتضحية وإخلاص وصدق وأمانة ومسؤولية، رجل أحبّ وطنه وأهله فأحبّوه واحترمهم فاحترموه وأخلص لهم فذهب مأسوفًا عليه، لكننا لا نملك له إلا الدُّعاء بأن يغفر الله له ويرحمه ويعلي منزلته في الفردوس الأعلى.
وبما أن لنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة فإنني أشير إلى حادثة تاريخية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما نُعي إليه سيف الله المسلول الصحابي الجليل المجاهد خالد بن الوليد استرجع وبكاه وترحّم عليه، ولما مرّ بأحد أسواق المدينة وسمع بكاء نساء بني مخزوم على خالد قال له أحد أصحابه ممن كان معه: أترى أن أمنعهنّ؟ فاستعبر عمر وقال: (دع نساء بني مخزوم يبكين خالدًا، فعلى مثل أبي سليمان فالتبك البواكي).
نعم (فعلى مثل أبي سعود فالتبك البواكي) ولكن مما يعزينا فيه أمور عدة، منها:
1. سيرته العطرة ومسيرته المباركة لرجل دولة من الطراز النادر فقد كان -رحمه الله- (دولة في رجل ورجل في دولة)، فمضى مأسوفًا عليه مذكورًا بالخير مقرونًا بالدُّعاء له بالرحمة والمغفرة من الله وأن يخلفه على الوطن بالصالح من إخوانه وأبنائه، وهذا لعمري أفضل عزاء يعمل له أي إنسان.
2. اللحمة الوطنيّة التي شهدها الوطن منذ الإعلان عن نبأ وفاته فلا تجد كبيرًا أو صغيرًا أو ذكرًا أو أنثى، مواطنًا أم مقيمًا إلا والتأثُّر بادٍ عليه وكأن المصاب مصابه لوحده وهو مصاب الجميع، وهذه اللحمة الوطنيّة هي أغلى ما نملك وأثمن ما يجب علينا المحافظة عليه، فنحن نعرف أننا وطن مستهدف في عقيدته ووحدته وشبابه ونسائه واقتصاده، وسلاحنا لمقاومة هذا الاستهداف هو لحمتنا الوطنيّة المنبثقة من عقيدتنا الشرعية وثوابتنا الوطنيّة.
3. إنه على الرغم من خسارة الوطن لرجل بحجم ووزن وثقل الأمير الراحل -رحمه الله- إلا أن سرعة الإجراء الذي اتخذه قائد الوطن وسليل الأماجد وذخرنا في الملمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله وأيّده- بإصدار أمره الكريم رقم أ - 139 وتاريخ 28-7-1433هـ باختيار صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع -حفظه الله- وليًا للعهد وتعيينه نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للدفاع كان مثلجًا للصدر لجميع المواطنين والمقيمين والعرب والمسلمين ودول العالم، وظهر ذلك في الإشادات التي ما خلا منها مجلس ولا قناة أو وسيلة إعلامية داخلية أو خارجية حتَّى شبكات التواصل التي تُعدُّ في علم الاجتماع وسيلة لرصد نبض المجتمع، فسموه -رعاه الله- ابن مجتمع المملكة وخريج مدارس والده وإخوانه الملوك -رحمهم الله- حتَّى عهد خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله- والوطن مدين للأمير سلمان داخليًا وخارجيًا، فهو الأمير الإنسان المؤرخ المثقف السياسي بعيد النظر، هو من ترعرع وشرب ثقافة المجتمع والدَّولة والقيادة، وتعيينه أعطى الوطن والمواطن الاطمئنان فلهجت الألسنة بالشكر لله أولاً ثمَّ للقائد على هذا الاختيار، ونسأل الله له الإعانة والتوفيق وأن يكون خير خلف لخير سلف.
4. إن سيرة الراحل سمو الأمير نايف نبراسٌ للعاملين في المجال الأمني لرجل نذر نفسه من الصغر لخدمة الوطن والمواطن، وبما تحلى به من حنكة وذكاء ودهاء وحزم وصرامة في هدوء وعدم انفعال أو ارتجال وأسهمت هذه السيرة والمسيرة في تأسيس منظومة أمنية شهد لها العالم أجمع بالكفاءة في مقاومة الإرهاب والمخدرات والتسلل والتغريب، إضافة إلى تأصيل أسلوب المناصحة الفكرية، الأمر الذي انعكس على الوطن بالخير وبخاصة في مجالات الحج والعمرة والزيارة وأمن المجتمع وغير ذلك من المجالات، وهي سيرة يجب أن تستمر وأن تُستلهم وهو المأمول بإذن الله من ولاة أمرنا -حفظهم الله- ومن توجيهاتهم للقائمين على هذه المنظومة.
5. إن سموه -رحمه الله- أعطى لوزارة الداخلية بعدًا شرعيًا واجتماعيًا ووطنيًا وفكريًا وتنمويًا، وإذا كان القائم على هذا المنصب في دول أخرى لا يحظى بمساحة حبّ، بل ولا تقدير أحيانًا في دول عدة، إلا أنه في هذا الوطن عكس ذلك، فالقائم عليها هو محط نظر المجتمع حبًّا وتقديرًا وثقةً مطلقة، ولذا لما صدر الأمر الملكي الكريم رقم أ-140 في 28-7-1433هـ بتعيين نائبه صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز وزيرًا للداخلية استبشر الناس رغم مظاهر الحزن العميق الذي كان يلفّهم؛ لأنَّ سموه كان ساعد الراحل الأيمن في هذا المنصب المهم والحساس للجميع في هذا الوطن بخاصة وللعالم أجمع بحكم موقع المملكة ودورها الخليجي والعربي والإسلامي والدولي، نسأل الله له الإعانة والسداد وأن يكون خير خلف لخير سلف.
وختامًا لا نقول إلا ما أمرنا به ربّنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ونسأله أن يغفر لأميرنا الراحل صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز ويجزيه خير الجزاء بقدر ما عمل لأجلنا ولأجل وطننا ومجتمعاتنا، ونسأله أن يحفظ قائدنا خادم الحرمين الشريفين ويمد في عمره وأن يشد عضده بسمو ولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز وإخوانهم وأبنائهم ومواطنيهم وأن يحفظ علينا في هذا الوطن عقيدتنا وأمننا واستقرارنا ورخاءنا، فإننا في وطن ينظر إليه المسلمون على أنه قبلتهم التي تهفو إليها قلوبهم وأفئدتهم، وينظر إليه العرب بخاصة أنه بيتهم الذي يجدون فيه الأمن كلَّما حلّت بهم الملمات وادلهم الخطب وحلَّت بهم المحن، وينظر إليه العالم اليوم على أنه واحة الأمان لاقتصاد العالم وسياساته، وإن ما جرى ويجري في بلدان الربيع العربي والمحيط الإقليمي خير شاهد على مكانة وطننا المملكة العربية السعودية ومكانة قادتها، وإن ما شاهدناه وشاهده العالم في جِنازة فقيد الوطن والأمة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز -رحمه الله- من لحمة وطنية وتقدير خليجي وعربي وإسلامي ودولي خير شاهد على هذه المكانة للوطن وقادته، ومسؤوليتنا تجاهه عظيمة وكبيرة، وكل من موقعه عليه أن يسهم في استمرار هذه المكانة لهذا الوطن المبارك.
والله من وراء القصد.
رئيس قسم المناهج وطرق التدريس - كلية العلوم الاجتماعية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية