نعم... ونحن لماذا لا نرقص مع ذئابنا وهنودنا الحمر أيضًا؟ سؤال كبير يأتي عطفًا على المقال السابق وحكاية الرقص مع الذئاب المعادلة ذات الأطراف الثلاثة (الرجل الأبيض والذئب والهندي الأحمر)، والذئب كائن تمت شيطنته في ثقافتنا الإِنسانية، ربَّما لسبب غير موضوعي تمامًا يتعلق
بأنه من المخلوقات القليلة التي لم تقدم لنا نحن البشر فروض الطاعة، ولم نستطع ترويض شخصيته التي استعصت على أن تذوب في شخصياتنا البشرية مثل أخيه الكلب وهما من فصيلة علمية واحدة. والطرف الأخير -الهندي الأحمر- أيضًا تمت شيطنته في الثقافة الغربية، فهو الوثني والكافر والهمجي والطارئ، وهو أخيرًا الكنعاني الذي يجب تخليص أرض الميعاد (أمريكا) من سلالته في أدبيات العالم الغربي والمهاجرين الأوائل.
وفي نهاية المعادلة كانت المحصلة الكبرى أن الرجل الأبيض يراقص الذئب أمام الهندي الأحمر، فالأطراف المتنافرة جميعها سرّ يجب اكتشافه إذن، وأعقب هذا السر في ذهني سؤالان كبيران يشتملان على أسئلة فرعية:
أحدهما: يا ترى كم من البشر ممن هم حولنا من أبناء جلدتنا ومواطنينا أو من أهل قبلتنا أو من قبائلنا أو من طوائفنا تمت شيطنتهم في ثقافتنا وأدبياتنا وربَّما في شرعنا المطهر حتَّى أصبح التعامل معهم صعبًا للغاية وأضحى إقصاؤهم من لوازم الثقافة والموروث وأمسى شتمهم على المنابر وفي المنتديات من مبادئ الشرع وقيم الوطنية والجهاد المقدس، فتحوَّلوا وتحوَّلنا إلى ملفات قابلة للانفجار في وجوه بعضنا بعضًا في أي لحظة؟
والآخر: لماذا تخشى الأمم الإسلام وتستعديه وتعاديه، وهو دين الرحمة والإنصاف والسماحة والتعايش. وما سرّ محاكم التفتيش التي نصبت مشانقها للمسلمين في الأندلس بعد ثمانية قرون ولم يبق شاهدًا على حضارتهم إلا بعض مخطوطات الاوسكريال وعدد من قصور غرناطة والحمراء، ما سرّ الفشل الذريع في إبلاغ الرسالة الحقيقية لهذا الدين وإعطاء الناس صورته الأصلية في ثمانمائة سنة في الأندلس ونجاح سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاث وعشرين سنة. ما الفرق بين دولة الإسلام في الأندلس وخروجها بهذا الشكل الموجع والمخيف، والدول التي خرج منها الاستعمار البريطاني والفرنسي ولازالت تجتمع سنويًا تحت ما يسمى بدول الكومنولث البريطاني ودول الفرانكفورتية الفرنسية. أين يكمن الخطأ في الإسلام أم المسلمين يا ترى؟
ولا إجابة على هذه الأسئلة؛ لأنّ الواقع آنذاك كان معقدًا والحاضر أكثر تعقيدًا ولكن يجب أن يفرِّق المنصفون بين الإسلام والتاريخ الإسلامي، الإسلام دين رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والتاريخ الإسلامي تاريخ إنساني يخضع لمقاييس المؤرخين، ولن يكون مادة مقدسة للاستدلال مقابل قطعية النصوص، فالإسلام النقي الذي نزل على سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم لن يعترض عليه عاقل فإن لم يقبله عقيدة فلن يرفضه أسلوب حياة، وهذا باعتراف صناديد قريش آنذاك في مجلس قيصر والنجاشي وفيما بينهم في مجالسهم ونواديهم حول الكعبة بخلاف المُشَوَّه والمُعَلَّب الذي عبثت به أيدي الارتزاق والجهل والتوحش والعصبية والطائفية، فأبناؤه يهربون منه بطريقة تجعلهم يغردون خارج سربه فلا حول ولا قوة إلا بالله، علمًا أنني لا أنكر حجم الظلم الاجتماعي الذي تمت ممارسته على بعض الفئات في مسيرة التاريخ الإسلامي، وربما كانت تلك الممارسة باسم الإسلام وأحيانًا باسم العروبة وهما بريئان منها، فأقصيت قبائل وطوائف وشخصيات من رحم المجتمع المسلم بلا حجج مقنعة ولا مسوغات منطقية، وأصبحت في موقع التهمة والنقص والبذاءة والازدراء، مما أدى إلى فرض حالات من التوحش بين أهل الإسلام ومكونات المجتمع، فتبادل القوم التهم وحاكوا خيوط المؤامرات ضد بعضهم وكان بعضهم الآخر في طلائع جيوش الغزاة والطامعين، تلاسنوا في أدبياتهم حتَّى كفر بعضهم بعضًا، وضيَّقوا الدائرة التي لم تُعدُّ تسع سواهم بطريقة غير إنسانية ابتداءً وانتهاءً.
نعم، كل مفاصل الحياة وأدلتها تؤكد أن الإسلام كان أرقى من أهله الذين لم يفهموا سرّ قبوله الجزية من أهل الديانات الأخرى فلم يجبرهم ولم يكرههم على الإيمان به لسبب بسيط، ألا وهو أن هذا الدين لا يستعجل النتائج وسيجبر أولئك على الدخول فيه بقناعاتهم في نهاية المطاف حينما يخالطون المسلمين الحقيقيين ويرون من رحمتهم بهم ومن عدلهم وأخلاقهم ما يفرض عليهم القناعة بأن هذا الدين رباني وخير دليل إسلام أهل سمرقند في قصتهم مع الخليفة الأموي الذي أمر الجيش بالخروج منها لأنّهم غدروا بهم، كما أنه لا يمكن اختصار الإسلام بتحقيق رغبة السلاطين وشرعنة جمع مزيد من الذهب الأصفر والجواري ذات الشعر الأشقر وزيادة رقعة امبراطورياتهم على حساب الدعوة إلى الله جلّ وعلا الذي لم يبعث محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم جابيًا ولا امبراطورًا ولا دكتاتوراً ولا مصاصًا للدماء، بل بعثه رحمة مهداة للعالمين ولكن الذي مارسه المسلمون في التاريخ كان يشعر بالخيبة صدقًا إلا بعض صور كان أبطالها بعض خلفاء الإسلام وشخصياته الحقيقية من أمثال التجار المسلمين الذي نشروا هذا الدين بأخلاقهم وتعاملهم الصادق مع الشعوب وبسبب هذه القوة الناعمة والتثقيف السلس بقيت إندونيسيا وماليزيا من بلاد الإسلام إلى هذا اليوم وكفرت الأندلس بعد ثمانية قرون من الحضارة في صورة تؤكد أيضًا فشل سيطرة القوة الخشنة (السيف وأدوات الحرب) وحدها على الذهنية ونجاح المشروع وبقائه خالدًا على صفحات التاريخ حينما يمارس على أرض الواقع القوة الناعمة (الثقافة) ويغرس أثرها في حياة الناس بكل تفاصيلها في السوق والمقهى والشارع، والأدهى من ذلك حينما تملأ بعض كتب الفقه نصوص تؤكد إهانة أهل الذمة والمخالفين وإذلالهم وتمييزهم بلبس الأصفر، وبالغ بعض الفقهاء في تفسيره قوله تعالى: (مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) بأن يصفع الجابي المسلم الذمي على قفاه حين يأخذ منه الجزية إذلالاً له وبأن يعطيها وهو راكع ويمدها من وراء ظهره وهكذا من الصور غير الإنسانية التي لم يقرها الإسلام العظيم استدلالاً بما ورد في سيرة نبينا الكريم من احترامه للبشر وآدميتهم على اختلاف مشاربهم، والمنطق وحده يفرض حقيقة أنه لا يمكن لمخلوق أن يؤمن بدين يعامله أتباعه بهذا الأسلوب المهين في التطبيق مهما كانت نصوصه مقنعة في التنظير. فالجزية إذن هي حق مشاركة اآخر كجزء من المجتمع المسلم الذي يدفع الزكاة وليست تمييزًا وإقصاءً كما يتصوره بعض الفقهاء، وخير دليل أن سيدنا أبا عبيدة أعادها لأهل الكتاب حينما شك في قدرته على حمايتهم مما دعاهم إلى الإيمان مقابل صورة توجب دفع الزكاة على المسلمين دون نظر للقدرة على الحماية من عدمها، وهذه المشاركة من قبل الآخرين في تكوين المجتمع المسلم أدركها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حينما كتب وثيقة المدينة المنورة آنذاك وتُعدُّ أول وثيقة دستورية مدنية للتعايش في الدَّولة المسلمة، وقد نصت على قبائل يهودية لم تكن معروفة كبني عوف وبني جشم وغيرهما مما يدل على أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سمعهم وخاطبهم واتفق معهم على شروط الوثيقة وتفاوضوا جميعًا على طاولة واحدة، إذ ورد فيها: “هذا كتاب من محمدٍ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمّة واحدة من دون الناس... وإنّ بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يُوتغ (يهلك) إلا نفسه، وأهل بيته. وإنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإنّ جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ البر دون الإثم وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وإنّ بطانة يهود كأنفسهم. “.... صدقًا أتمنى إلا يتبادر للذهن أنني أبحث عن مسوغ للآخرين أو اصطنع مناطق غفران لخطاياهم وآثامهم وما أكثرها. ولكني في الواقع أحاول أن أرصد حوافز وليس مسوغات، والفرق بينهما شاسع جدًا، فقد يستفز إنسان إنسانًا في حالة عصبية فيقتله، فهذا الاستفزاز حافز فقط وليس مسوغًا للقتل، وصور الظلم الاجتماعي التي وقعت على تلك الفئات من المجتمع الإسلامي هي حوافز وليست مسوغات للتآمر على الإسلام وأهله العرب كمادة للإسلام الذي نادى كثيرًا أتباعه بضرورة التعايش وفهم الحياة وغرس مبادئه التي تفيد بالتجربة أن المجتمعات الناجحة في السير إلى الأمام هي التي تسير جمعاء دون استئثار طرف بكل شيء، ودون استحضار للذهنية الأمية في تفسير كل مفاصل حياة الآخرين، ودون تخوين بالشبهة وإصدار فرمانات المؤامرة والأحكام المسبقة على أطراف المعادلة والتكوين، المجتمعات الإنسانية هي التي تلتفت إلى أقلياتها وفئاتها المظلومة وتأخذ بيدها إلى الخير والصلاح وتنقذها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتحاول أن تفك رموز التوحش الذي سيطر على دهاليز نفوسها فحوَّلها إلى أدوات غير فعَّالة في بناء المشروع الوطني لأنّ فرض الولاء والإيمان بالتبعية لا يكون بفرض السيطرة والتلويح باستعمال القوة الخشنة وبخاصة في بيئات مغلقة انفتحت فجأة على معطيات الإعلام الجديد، الحكومات الصادقة لا يمكن أن تنجح في تأسيس دولة محترمة في قانونها وسيادتها وهي تفرض التوحش على أطرافها ومن حولها، وربَّما كانت صلاة أحدهم كافية لقتله، ولحيته مسوغًا لاعتقاله في زنزانات لا يعلم إلا الله وحده ماذا يجري بها. المجتمعات التي يكون إسلامها في وجدانها ويتمتع شعبها بما يكفي من الثقة في نفسه وفي مشروعه تصبح أقل ارتيابًا من الآخر كائنًا من كان، وأكثر قدرة على احتوائه عن طريق تلك القوة الناعمة والتثقيف السلس، فأي مجتمع تحوّل ذهنيًا ومنهجيًا إلى مجتمع مذعور كلَّما رأي زاوية قائمة أو خطين متعامدين، أو وردة حمراء، أو عين في دولار فلن يستطيع مقاومة رياح التغيير التي ستطال ثوابته وتأكل الأخضر واليابس ولن يفلت من شرها أي طرف من أطراف المعادلة، والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com