يقول العالم المصري فاروق الباز: إّن لكل عالم وخبير عربي أسبابه الخاصة التي دفعته إلى الهجرة. وهذه تضاف إلى الأسباب العامة المشتركة في الوطن العربي، حيث لا احترام للعلم والعلماء، ولا تتوفر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع.
وبالتالي فمن الطبيعي أن يبحث العالم العربي وطالب المعرفة عن المكان الذي تتواجد فيه شعلة الحضارة. إذ عندما كان العالم العربي يحمل شعلة الحضارة قبل مئات السنين، كان يأتيه المفكّرون والخبرات والعقول من كل حدب وصوب، وبما أنّ شعلة الحضارة انتقلت إلى الغرب فمن الطبيعي أن يهاجر الخبراء والعلماء إلى المراكز التي تحتضن هذه الشعلة.
وكتب ريفين برينر في كتابه “القرن المالي” يقول: (في ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والأموال إلى حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين ومربحين. ففي كل عام يغادر ما يقدّر عددهم بنحو 1.8 مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات من العالم الإسلامي إلى الغرب. وإذا افترضنا أنّ تعليم أحد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط عشرة آلاف دولار، فإنّ ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام).
فماذا يقصدون بهجرة العقول أو نزيف الأدمغة أو النقل المعاكس للتكنولوجيا؟ يراد بها: نزوح حملة الشهادات الجامعية العلمية والتقنية والفنية، كالأطباء، والعلماء، والمهندسين والتكنولوجيين والباحثين، والاختصاصيين في علوم الاقتصاد والرياضيات والاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم والآداب والفنون والزراعة والكيمياء والجيولوجيا، ويشمل أيضاً الفنانين، والشعراء، والكتّاب والمؤرِّخين والسياسيين والمحامين، وأصحاب المهارات والمواهب والمخترعين وشتى الميادين الأخرى، وبالتالي فإنّ إنتاج الشيء يتطلّب المحافظة عليه، حيث أنتجت الدول العربية المواد البشرية في حين فشلت في المحافظة عليها. وهجرة العقول أو نزيف الأدمغة يؤكد ذلك، التي لم تشكّل في السابق خطراً كما هي الآن بجانب أنها كانت فريدة، نطاقها محدود، لكنها تحوّلت الآن إلى سوق عالمية تنافسية لتهجير العقول واستنزافها.
في ورقة بحثية بعنوان هجرة العقول العربية أسبابها وآثارها الاقتصادية، قام بإعدادها كلٌّ من: أ. محمد عبد الله المنصوري، د. عبد العالي بوحويش الدايخ، من كلية الاقتصاد - جامعة عمر المختار، أشير فيها إلى أنّ بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكندا، استطاعت توظيف هذه الهجرة بما يخدم أهدافها الحالية والمستقبلية، مستفيدة من النبوغ الذهني المتطوّر لهؤلاء المهاجرين، بينما أهملت العديد من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية - هذه الظاهرة مما أدى إلى خسارتها الجسيمة لهذه الموارد البشرية، واستغنت عن خدماتها وإمكانياتها المتطوّرة، ومما زاد من خطورة هجرة العقول أو الأدمغة العربية كونها أصبحت من العوامل المؤثرة على الاقتصاديات الوطنية والموارد البشرية في الوطن العربي، ومن يقول إنّ هناك برامج موضوعة، نقول إنّ تلك البرامج والخطط الموضوعة ومراكز البحث العلمي، أثبتت فشلها في استقطاب واسترجاع سوى قلة قليلة جداً من العقول المهاجرة، بسبب عدم شمولية المعالجة والفشل في إيجاد بيئة علمية مستقرة .. إلى متى تقف الدول العربية والإسلامية مكبّلة أمام تلك الهجرات، وفي آخر إحصائية اطلعت عليها أشارت إلى أنه في السنوات الخمسين الأخيرة هاجر من الوطن العربي ما بين 25-50%، مما يؤثر في الاقتصاد العربي وفي التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، حيث إنّ الهجرة تكمن في التخلّف الذي نعيشه ونرفض أن نعترف به، وبالتالي نحاول التطهُّر منه، ومجهودنا من محاولة القضاء على هذه المشكلة إقامة الندوات وإعداد الدراسات والأوراق البحثية، هذه الندوات والدراسات أو الأوراق لم تستطع وقف نزيف العقول، والدراسات أشارت إلى أنه منذ العام 1977م وحتى 2010م هاجر أكثر من (750.000) - سبعمائة وخمسون ألف عالم عربي - إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإن 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، يشكِّل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها، أما الدول التي تجتذب تلك العقول فهي: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا، حيث تجتذب نحو 75% من العقول العربية المهاجرة. وبالتالي فإنّ عوامل الطرد تهيئ الترب الخصبة لعوامل الجذب، فظاهرة التخلُّف، وتدني مستوى الدخل الذي لا يمكن الفرد من سد احتياجاته الأساسية، واجة الطبقة المتعلمة التي تتميّز بالخبرة والدقة في العمل إلى العيش بمستوى لائق من أجل تطوير ذاتها، اعتماداً على التكنولوجيا المتطوّرة والإصدارات العلمية العالمية المتخصصة بجانب الكتب وغيرها مما لا تملك الدول العربية تحقيقه للعالم، الأمر الذي يدفعه نحو التفكير بالهجرة وتنفيذ الفكرة، حيث شتان بين أرضية تحتضن المؤسّسات العلمية والبحثية العربية القادرة على استيعاب واحتواء مثل هذه الطاقات، وأرضية لا تستطيع ذلك بسبب ضعف المردود المادي، ووجود قوانين وتشريعات مالية مربكة لأصحاب الخبرات بجانب البيروقراطية والفساد الإداري وتضييق الحريات، انعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي، عدم توفر الاختصاصات وأسباب كثيرة تختص بالعقل وبظروف المهاجر نفسه وبعوامل الجذب الأخرى، ولنا أن نتصور آثار هجرة العقول العربية إلى الغرب!!.
ولأنه لآسيا تجربة مع هجرة عقولها، كان ينبغي لنا الاستفادة من تجربتها وبالتالي عدم وقوعنا في نفس المشكلة، وتداركها من خلال هذه الدولة، وكيف أن النمو الاقتصادي فيها أصبح قوة لإعادة الخبرات المهاجرة إلى أحضانها، تجربة دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة وتايوان، تجربة مهمة ينبغي قراءتها جيداً والاستفادة منها كما ينبغي للاستفادة أن تكون، من أجل أن تعود نمورنا العربية كما عادت (النمور الآسيوية).
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443
Twitter: @Hudafalmoajil