على الدول العربية اليوم أن تنجح في تحقيق التحالفات والتكتلات والتكاملات الإقليمية والاندماج البناء؛ وهاته هي الطريقة التي ستسمح بخلق فرص للشغل وتحقيق التنمية وخلق شروط النمو؛ وللأسف بقيت بعض الدول تقول إنها ستعرف هجرة لا مثيل لها من الدول العربية الفقيرة إذا لم تحكم عوامل التبادلات والتكتلات الإقليمية
وهذا التخوف كنا نسمعه مثلا عندما أرادت أوروبا الشرقية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وكانت بعض الأوساط الألمانية تحذر من تسونامي بشري يهاجر إليها من دول كهنغاريا ورومانيا، يحدث أزمة اجتماعية واقتصادية في ألمانيا ولكن لم يقع شيء من هذا القبيل.
العالم بأسره يعرف نماذج من الاندماج والتكاملات الإقليمية والجهوية وهي قد تكون اقتصادية، كما قد تكون سياسية واجتماعية واقتصادية كما قد تكون أمنية وعسكرية إلى غير ذلك. لا يتسع المقال لذكر الأمثلة، ولكن الذي يهمنا هنا هو شيء واحد يمكن أن نصوغه في سؤال واحد: هل العامل الجغرافي ضرورة لتحقيق الاندماج والتكتل الإقليمي؟ الجواب عندي أن هذا العامل في القرن الواحد والعشرين لم يعد ضرورة من الضروريات اللازمة؛ فمدرسة الإقليمية التقليدية كانت تنادي بضرورة خلق التكامل مع دول متجانسة اقتصادياً وتاريخياً وجغرافياً وثقافياً واجتماعياً بمعنى وجود لبنات ولحمة تمكن من جمع تلك الدول في قالب تعاوني واحد يسمح بتسريع التنمية والاستفادة من الخيرات والإمكانات الموزعة في كل مناطق وحدات التكتل، كما يسمح بتوحيد السياسات المختلفة وفي جوانبها المتعددة.
أما اليوم فيجب الاستعانة بمدرسة الإقليمية الجديدة التي تنادي بخلق التكتلات على أساس تشابه المصالح بين الدول، وهذا يعني إمكانية إحداث تكتلات ومؤسسات للتعاون بين دول غير متجاورة جغرافيا، بل وغير متشابهة ثقافياً وإيديولوجيا؛ فإذا أخذنا مثلا تجربة مجلس التعاون الاقتصادي لدول آسيا - المحيط الهادئ (الاَبك) ورابطة التعاون الإقليمي لدول المحيط الهندي التي تعتمد على المنظور الإقليمي الجديد، فإنها تنطلق من تصور سلس وسريع للتنمية كتحرير التجارة البينية ونقل التكنولوجيا وتسهيل نقل الاستثمارات؛ أما المؤسسات التي نشأت انطلاقاً من المنظور التقليدي للتكتل كرابطة دول جنوبي شرقي آسيا (الآسيان) ورابطة دول جنوبي آسيا للتعاون الإقليمي (السارك) ومنظمة التعاون الاقتصادي (الايكو) فإنها ركزت على التكامل الاقتصادي عبر المراحل التقليدية لهذا التكتل انطلاقاً من خفض التعريفات الجمركية وصولاً إلى الوحدة الاقتصادية مثلاً؛ وقد تتطور تلك التكتلات التقليدية لتنشئ روابط مؤسسية مع دول أخرى كما فعلته دول جنوبي شرقي آسيا مع دول شرقي آسيا الكبرى وهي الصين واليابان وكوريا الجنوبية، حيث يتم ذلك في إطار صيغة الآسيان + 3؛ فلم يعد التجانس الجغرافي القاعدة الأساس في شروط الاندماج والتكتل الإقليمي الضيق؛ وبإمكاننا أن نأخذ مثال حلف الناتو، حيث إن من بين أعضائه الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا وغيرها وما عطلت هياكله يوماً من الأيام.
وبالإمكان هنا انطلاقاً مما ذكر أن نرحب بدعوة دول مجلس التعاون الخليجي الأولى المغرب للانضمام إلى حظيرته وتلبية طلب الأردن؛ وإن سلمنا بأن الأردن له امتداد جغرافي مع الخليج، فإنه انطلاقاً من النظرة الإقليمية الجديدة فإن عامل المصالح المشتركة يمكن أن يفسر إمكانية انضمام المغرب إلى دول مجلس التعاون الخليجي وهو أكثر تعليلاً من العامل الجغرافي، زيادة على ذلك فإن عوامل أخرى كنوعية النظام السياسي والتاريخ والدين تسمح بخلق مقاربات تشابهية مع المغرب وكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي.
أما من حيث المصالح، فتكفي الإشارة إلى أن عدد سكان المغرب يتعدى الثلاثين مليون نسمة ودول مجلس التعاون الخليجي يصل عدد سكانه 39 مليون نسمة؛ وهذا العامل السكاني سيسمح بخلق تجمع بشري يتعدى الثمانين مليون نسمة إذا أضفنا إليه الأردن؛ وهذا العامل السكاني سيسمح بخلق سوق كبيرة وسيعطي قيمة مضافة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى العسكرية والأمنية لكل دول المنطقة؛ فكل التكتلات يكون قوتها أعظم عندما يتوسع عدد أعضائها وتكبر القيمة البشرية والسكانية وتكون دول محورية قوية تقود سفينة تسيير التكتل إلى بر التناغم والوحدة.
وإذا تركنا مسألة انضمام المغرب والأردن جانبا، فإن دول مجلس التعاون الخليجي مطالبة أكثر من وقت مضى بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد؛ فمنذ الزلزال العربي وتداعياته، بقيت دول مجلس التعاون الخليجي في منأى عن الاحتجاجات وهذا الاستقرار تعتريه محاولات إيرانية حثيثة لإشعال نار الفتن مثل ما حدث بالبحرين وحملات التحريض المنظمة لاستهداف دول المنطقة مما يجعلنا نقول إن الاتحاد الخليجي أضحى ضرورة وحاجة أمنية واستراتيجية وسياسية ملحة واقتصادية أيضاً.
هناك إذن استشعار بالخطر يحيط بدول المجلس من كل مكان وأكثر من أي وقت مضى وهذا يتطلب وعياً وواقعية وابتعاداً عن المزايدات وضياع الوقت؛ ويتطلب الابتعاد عن سياسة تسجيل النقاط والمماحكات السياسية.
في السياسات التكتلية والاندماجية نقول ان الدول يجب أن تبتعد عن التنافس غير المبرر، ولكن هذا يستلزم في الوقت نفسه دولة أو أكثر تسمى في قواعد العلاقات الدولية الدول المحورية تقود سفينة الاتحاد وإلا كبر عليها أربعا لتعثرها.
ولقد رأينا في مقالتنا الأسبوع الماضي كيف بنى الاتحاد الأوروبي وكيف يقوم على محورية بعض الدول خاصة فرنسا وألمانيا (وللذكر فإن فرنسا وألمانيا عاشتا ثلاث حروب ضروس في تاريخهما وهما الآن من الدول الأوروبية الأكثر تعاونا في كل الميادين)؛ ولولا تدخل كل من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لانهارت عملة اليورو منذ زمان ولخرجت دولة اليونان من الاتحاد الأوروبي منذ زمان، ولكن الحس والسبق الدبلوماسيين والاستراتيجيين الألماني والفرنسي جعلتهما يتدخلان أكثر من مرة لاحتواء المشكلات الأوروبية وتحقيق التنمية الاقتصادية والتعاون الاجتماعي والثقافي والعسكري في ظل عالم معولم يزداد ضبابية وعالم مالي متقلب.
فوجود دولة محورية في أي اتحاد هو قاعدة أساسية، بل وفريضة إذا أراد أن ينجح ولا يتعثر في مسيرته، وأعجبني تفسير زميلنا الكويتي محمد غانم الرميحي في إحدى كتاباته عندما تحدث عن حجم التحديات الماثلة أمام دول الخليج قاطبة، وخاصة الدول الصغرى في الحجم والسكان والموارد، مع استعداد للدولة الأكبر، وهي المملكة العربية السعودية، أن تقوم بالقيادة، “وربما ببعض التضحية لتمكين تلك الخطوة المستحقة والمطلوبة من التحقق على الأرض، أي تحويل التعاون إلى اتحاد. في إطار المصلحة البحتة، الدول الصغيرة أكثر احتياجا اليوم من الكبيرة في منظومة نقل التعاون إلى الاتحاد، وأريد أن أدلل بما أعرف، فلولا موقف المملكة العربية السعودية بقيادة المرحوم الملك فهد ومعاونة من أخيه الملك عبد الله، الذي كان وقتها وليا للعهد، لما تطورت أمور تحرير الكويت في عام 1990 كما عرفه التاريخ القريب، ولولا مبادرة مجلس التعاون - مرة أخرى - بقيادة المملكة في منع تطورات سالبة وكارثية في البحرين لما استقام أمر الأمن في هذه المنطقة، كما تم له حتى الساعة، وهناك أمثلة أخرى كثيرة في الجانب الشرقي من الجزيرة، والجنوبي في اليمن، تؤكد ذلك المنحى الذي تقدمت المملكة فيه لأخذ المبادرة، ومنها بالطبع مبادرة الملك عبد الله بتطوير التعاون إلى اتحاد”.
عندما أزور دول مجلس التعاون الخليجي، ودول الاتحاد الأوروبي أجد أن الأولى فيها ما يجمع بينها أكثر مما يجمع بين دول الاتحاد الأوروبي؛ وكل يوم يمضي من حياة الدول في القرن الواحد والعشرين يكون فيها الغلبة لمن أكمل قواعد الاتحاد وأنزل دساتير الاستراتيجيات الهادفة إلى أرض التطبيق وإلا ضاعت مصالح العباد والبلاد مجتمعة.