الفساد في اللغة ضد الإصلاح، وخروج الشيء عن الاعتدال، وفي الاصطلاح الشرعي فإن الفساد يشمل جميع المحرمات والمكروهات شرعاً، وجميع الأديان تدين الفساد في أكثر من موضع وعلى نحو أو آخر، والشريعة الغراء لم تترك
مفسدة إلا ونهت عنها، وطلبت درءها وإزالتها واتقاءها.
إذاً، الفساد يعني إلحاق الضرر بالغير، والفساد أعظم من الظلم؛ لأن الظلم - كما يقول (الكفوري) - من سرق مال الغير فقد نقض حق الغير. وقد تكرر لفظ الفساد ومشتقاته في أكثر من 50 موضعاً في القرآن الكريم بصيغ وأساليب مختلفة، جاء نصها القطعي على تحريم الفساد بجميع صوره، ومنها بالطبع الاستيلاء على الأموال العامة والخاصة وبخس الناس أشياءهم.
وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة في نصوصها متفقة في معانيها بشأن الفساد مع النصوص القطعية في القرآن الكريم التي حرمت الفساد تحريماً قطعياً في جميع أنواعه.
وعندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية، واعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدم قبولها لخوفهم - على رغم قوة إيمانهم - أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي عذرهم، ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك” رواه البخاري
والفساد بكل صنوفه يُعَدّ واحداً من أسوأ مظاهر الظلم، بل وأكثرها انتشاراً في هذا الزمان، وهو ظلم وهضم واضح لحقوق الناس، وخصوصاً الفقراء منهم الذين يرون حقوقهم تغتصب جهاراً نهاراً أمام أعينهم وهم أعجز خلق الله عن كف يد المعتدي.
إن الآيات الكريمة بنصها القطعي تحذر من الظلم وتنهى عن الفساد وتوضح أن عاقبته وخيمة {إن اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} آل عمران -الآية 57، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} آل عمران - الآية 192، والأحاديث النبوية متعددة، قال صلى الله عليه وسلم “اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة” رواه البخاري، وقال “إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته” رواه البخاري ومسلم. هذه النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة تحذِّر من الظلم، وتلفت إلى عواقبه الوخيمة باعتباره يمثل قمة الفساد، ويؤدي إلى الإخلال بالاقتصاد وبأخلاقيات المجتمعات بل يطول أثره كيان الدول.
إن الفساد مصدره الأنانية وحب النفس، وإنه يبدأ صغيراً ثم يكبر.
وإن الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق.
وإن الفساد لا يراعي وشيجة قرابة ولا أواصر رحم ولا صلة صداقة.
وإن الفساد ظلم صراح لا شك في ذلك.
وإن المفسد مهما تمتع بثمرات فساده فإن عاقبته تكون وخيمة ونهايته رديئة وإنما يحيق المكر السيئ بأهله.
إن ديننا الحنيف أوضح بجلاء لا غموض فيه أن الظلم والفساد نهايتهما الضياع والهلاك، إن كان للأفراد أو للأمم أو للدول، وفي الأثر: “إن الله يقيم دولة الكفر على العدل ولا يقيم دولة الإيمان على الظلم”. والظلم كما أسلفنا هو أساس الفساد وعموده، فالمفسد إنما يمارس ظلماً صراحاً، عندما يمارس فساده من رشوة ومحسوبية وغيرها من مظاهر الفساد.
وقد يتساءل البعض عن سبب هذا الفساد الذي ينتشر في عالم اليوم، انتشار النار في الهشيم، ولا تكاد تخلو منه دولة أو مؤسسة، وأرى أن السبب هو هذه المادية التي يعيشها العالم؛ فعالم اليوم مغرق في ماديته، ويكاد يتجرد من الروحانية والإنسانية السمحة ومن أبسط قواعد العقل والمنطق والأنظمة والقوانين؛ فأصبح شعار معظم الدول التي لا تطبق شرع الله هو (المنفعة) وشعار الأفراد (نفسي نفسي)، وعالم هذا حاله بالتأكيد أن بعض أفراده لا يعترفون بحدود في إشباع رغباتهم، ولا يراعون محظوراً في تحقيق مآربهم، وتصبح كلمة (التزام) كلمة (ممجوجة)، وكلمة الضمير تثير (السخرية).
وأمام هذا الطوفان للفساد المادي المجنون تصبح القوانين قاصرة عن ملاحقة المفسدين، وتصبح المؤسسات الدولية التي تنادي بالطهر والنزاهة والشفافية مشروخة الصوت، لا يستمع إليها أحد؛ فصندوق النقد الدولي الذي يدعي أنه يدعم الجهود المبذولة لمكافحة الفساد، وخصوصاً في الدول الفقيرة التي تحصل على قروض من البنك، ويسيطر إلى حد كبير على توجيه اقتصاداتها، يعترف بصعوبة تتبع حركة المفسدين رغم أن البنك يقدم قروضاً لمشاريع محددة، ويمكنه التأكد من قواعد مكافحة الفساد في تلك المشاريع، لكن الحكومات الفاسدة التي تتلقى مساعدات البنك غالباً ما تعمل على بعثرة تلك الأموال لمصالحها رغم الشروط الصريحة التي يفرضها البنك، وهذا ما يستدعي من البنك الدولي متابعة سير القروض لمنع الفساد أو الحد منه لتحقق المشاريع أهدافها وأغراضها.
وهكذا، فإن الفساد والرشوة - رغم مساعي صندوق النقد الدولي وغيره مثل البنك الدولي واتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي وغرفة التجارة الدولية التي عملت على معالجة الرشوة ومنع استخدام المنشآت المتعددة الجنسيات للرشوة في سياق نشاطاتها في الأعمال في الدول الأجنبية - لا يزالان منتشرَيْن، ويسريان في عروق معظم العقود والصفقات مع شركات تلك الدول، وفي مقدمتها الدول العربية!
ورغم كل تلك المحاولات لمناهضة الفساد، ومنها بالطبع ما تقوم به الأمم المتحدة من خلال أذرعها، إلا أنه ليس هناك ما يمكن وصفه بأنه علاج ناجع سريع لآفة الفساد الذي تختلف حدته من دولة إلى أخرى، وتتصدر الدول العربية - للأسف - قائمة ترتيب الفساد عالمياً؛ لذا فإنها تحتاج إلى إصلاحات جذرية في أنظمتها وقوانينها لضمان النزاهة واستقلال السلطة القضائية ودعم أجهزة الرقابة عموماً، واختيار الكفاءات والخبرات المتميزة لإدارة هذه الجهات الرقابية المهمة لأداء وظائفها المنوطة بها على أكمل وجه، وتصدي أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة الحرة (كسلطة رابعة) للفساد بكل صنوفه للكشف عن أباطرته ورؤوسه الفاسدة الذين يتجاوزون على المال العام، ويسيئون استغلال السلطة في المناصب القيادية والإدارية، ويشيعون المحسوبيات وتنفيع الأقارب من خلال ما عرف بـ(الواسطة) أو فيتامين (و) وغيرها من الأمور التي تتكرر في عالمنا العربي يومياً أمام المجتمع.
ولا شك أن تضخم الجهاز الحكومي في الدول العربية، من وزارات وهيئات ومؤسسات عامة ومصالح، وما اعتراها من جوانب الترهل والقصور في الأداء، وسوء تنظيمها الإداري والمالي، جعلها تصبح محلاً لاستغلال الخلل الذي ينخر في عرقها؛ فاستغل الكثيرون هذا التقهقر الإداري وعبروه إلى فساد في ظل تدابير عادية عفا عليها الزمن، وأصبحت في دهاليز المتاحف؛ فلا بد من خطط واستراتيجيات مدروسة بدقة وحصافة وشفافية تطبق المفهوم الحقيقي للرقابات المالية والإدارية والقضائية وغيرها من أنواع الرقابات على من يعتدون على المال العام، وهم الذين ماتت ضمائرهم وضعف خوفهم من الله، لا يفرقون بين حلال وحرام، وأصبحوا يمثلون بؤرة الفساد والرشوة والمحسوبية.
dreidaljhani@hotmail.com
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية